وطنيات
قصة البطل إبراهيم عبد التواب.. آخر شهداء نصر أكتوبر في 14 يناير 1974
أسماء صبحي
” كفنوني بعلم مصر، وسلموا ابنتي منى المصحف والمسبحة”، تلك هي وصية العقيد إبراهيم عبد التواب التى ألقاها على جنوده لحظة أن وطئت قدماه أرض موقعة (كبريت) في التاسع من أكتوبر 1973.
ميلاده ونشأته
ولد العقيد إبراهيم عبد التواب بمحافظة أسيوط في العاشر من مايو 1937، وكان والده متدينًا محبوبًا من أهل قريته، التحق إبراهيم بالمدرسة الثانوية بالمنيا، وتعلم منذ الصغر كيف يعتمد على نفسه، وما أن أنهى سنواتها الثلاث حتى أسرع بتقديم أوراقه للكلية الحربية وكانت سعادته لا توصف عند قبوله بها فأجتهد حتى تخرج عام 1956.
وكان الشهيد البطل مثالاً في الأخلاق والشهامة والتسامح والتواضع الشديد، فكان يقرأ القرآن كثيرًا ويواظب على مواعيد الصلاة ثم يتبعها بالتسابيح والدعاء لله سبحانه وتعالى، لذا فلم يكن المصحف والمسبحة يفارقان جيبه أبدًا، حتى أشتهر بين جنوده بلقب “الشيخ”.
تدرج إبراهيم عبد التواب عقب تخرجه في مناصب القيادة المختلفة، حتى تولى رئاسة أركان إحدى مجموعات الصاعقة، ثم أصبح قائدًا لإحدى كتائب لواء تابع للقوات الخاصة في حرب أكتوبر.
تولى العقيد إبراهيم عبد التواب بنفسه تشكيل كتيبة واستكمالها من أفراد ومعدات، فحرص على حصول ضباطه على الفرق التعليمية التى تؤهلهم للمناصب التى يشغلها كل منهم، وكان يقوم بنفسه بإعداد طوابير التدريب التكتيكي لوحدته حتى يطمئن إلى أن كل فرد قادر على تنفيذ المهام التي يكلف بها في كفاءة تامة.
مهمته في حرب أكتوبر
كانت مهمة كتيبة البطل خلال حرب أكتوبر المجيدة، هى اقتحام البحيرات المرة الصغرى تحت تغطية من نيران المدفعية والقصف الجوى للطائرات المصرية، ثم التحرك شرقــًا على طريق (الطاسة) ثم طريق (الممرات) لتهاجم وتستولى على المدخل الغربي لممر (متلا).
وبالفعل في الموعد المحدد ومع صيحات الله أكبر التي أنطلقت من حناجر رجال القوات المسلحة تبث الرعب في قلوب الإعداء، انطلقت كتيبة البطل لتقتحم البحيرات المرة الصغرى بنجاح تام وفي فترة زمنية صغيرة للغاية، بفضل التوجيه المميز للقائد الشهيد إبراهيم عبد التواب، حتى وصلت الكتيبة إلى البر الشرقى للبحيرات وبدأت تنفيذ الشق الثاني من المهمة وهو السيطرة على ممر ( متلا ).
ورغم العقبات التى واجهت كتيبة البطل وشراسة العدو المصاب بالذهول، إلا أن إيمان الرجال بنصر الله ورغبتهم في استعادة كرامة الوطن حولتهم إلى أسود مرعبة فرت من أمامها مدرعات العدو ودباباته.
وستمرت مهمة البطل إبراهيم عبد التواب ورجاله في تلك المنطقة، وكبدوا العدو الإسرائيلي خسائر هائلة في الأرواح والمعدات، حتى التاسع من أكتوبر 1973، حيث صدرت الأوامر بمهاجمة النقطة الحصينة شرق (كبريت) والإستيلاء عليها.
مهاجمة شرق كبريت
وفي الساعة 630 يوم التاسع من أكتوبر 1973، تحركت كتيبة البطل إبراهيم عبد التواب نحو نقطة (كبريت) الحصينة، حيث اعتمدت خطة الشهيد على أستغلال نيران المدفعية والدبابات لاقتحام النقطة الحصينة من اتجاهي الشرق والجنوب بقوة سرية مشاة، وفي نفس الوقت الذي تقوم فيه باقي وحدات الكتيبة بعملية عزل وحصار من جميع الجهات لمنع تدخل احتياطي العدو الإسرائيلي.
ورغم قصف طيران العدو، واشتباك وحداته المدرعة في قتال ضار مع كتيبة البطل على بعد حوالى 3كم من النقطة الحصينة، إلا أن عزم القائد البطل ورجاله كان أقوى من أي عقبات، وسرعان ما انهارت قوات العدو وانسحبت مذعورة خلف التباب القريبة، وانطلق خلفها رجال الكتيبة الأبطال ونجحوا في تدمير الدبابات عن آخرها ونجحت خطة أقتحام النقطة الحصينة وتم تطهيرها وتفتيش جميع الدشم والملاجىء، وارتفع علم مصر خفاقًا عاليًا فوق هذا الموقع وتعالت صيحات الله أكبر.
وللإهمية البالغة لهذا الموقع، حيث كان مقرًا لإحدى قيادات العدو الإسرائيلي الفرعية وملتقى الطرق العرضية شرق القناة، ويمكن من خلاله السيطرة على كافة التحركات شرق وغرب منطقة (كبريت)، بالإضافة إلى أنه يعتبر نقطة الاتصال بين الجيشين الثاني والثالث المصريين.
لهذا الأسباب فقد كان تخلي العدو الإسرائيلي عن هذا الموقع شيء صعب للغاية إن لم يكن مستحيلاً، لذا فقد بدأت قوات العدو في محاولات مستميتة ومتكررة لاستعادة السيطرة على الموقع، حتى أن الهجمات الجوية كانت تستمر لساعات متواصلة وبقنابل بلغ وزنها الألف رطل، بالإضافة إلى هجمات الدبابات والمشاة.
حصار إسرائيل
ورغم كل هذا لم تسفر محاولات العدو عن أى تقدم، وظل الموقع صامدًا بفضل القيادة الحكيمة من البطل إبراهيم عبد التواب، وبراعة جنود مصر الأوفياء.
ونتيجة للفشل الذى مُنيت به هجمات العدو المتوالية، لم يكن أمام قادة إسرائيل إلا فرض الحصار حول الموقع على أمل عزل الكتيبة المصرية عن الجيش المصرى ومنع الإمداد عنها، ولقد استمر هذا الحصار مدة ١١٩ يومًا، نُسجت خلالها ملحمة نادرة غير مسبوقة من الصمود والتماسك بين أفراد الكتيبة المصرية بقيادة الشهيد البطل إبراهيم عبد التواب.
ومنذ اليوم الأول للحصار جلس العقيد إبراهيم عبد التواب وحوله رجاله _ ضباطــــًا وجنود _ يوضح موقف الكتيبة والإجراءات الواجب اتباعها، وتعاهد الرجال أنه لا تفريط في الموقع حتى آخر طلقة وآخر نفس يتردد في الصدور.
لقد كان البطل إبراهيم عبد التواب قدوة في تحمل آثار الحصار لكل الجنود، فقد كان أقل رجاله أستهلاكـًا للمياه والطعام، بل أنه في بعض الإحيان كان يتنازل عن التعيين الخاص به لمن يرى عدم قدرته على تحمل حالة التقشف التى اتبعتها الكتيبة منذ اليوم الأول للحصار وانقطاع الإمداد من الجيش المصري.
ورغم حالة الإعياء التى بدأت تظهر آثارها واضحة على البطل الشهيد، بسبب قلة الطعام والمجهود الرهيب الذى يبذله، فقد حرص العقيد على أن يُصلى برجاله كل الفرائض في مواعيدها، وكان يخطب أيام الجمع يبث الحماس والأمل في نفوس رجاله، ويبشرهم بنصر الله القريب أو الفوز بالشهادة.
استشهاده
وفي الرابع عشر من يناير 1973 وبينما كان البطل يواجه إحدى غارات العدو، سقطت دانة غادرة إلى جواره فاستشهد رحمه الله بين رجاله.
وكان لوفاة البطل إبراهيم عبد التواب أكبر الآثر في نفوس رجاله، حيث ازداد عزمهم على عدم التفريط في الموقع أبدًا، رغم العروض المغرية التي كان يلقيها العدو كل لحظة تارة بضمان سلامتهم، وتارة بضمان عودتهم بأسلحتهم، ولكن الرجال أصروا على القتال والمقاومة، حتى تم اتخاذ قرار الفصل بين القوات، وانسحبت قوات العدو.