حاتم عبدالهادى السيد
يحيلنا الشاعر حسين القباحى – منذ الوهلة الأولى – فى ديوانه : ” من أحاديث الكباش” الى ميثولوجيا الفراعنة ، ويتجلى ذلك عبر العتبة النصية للغلاف الذى يجسد منحوتات الفراعنة لحاملات الجرار اللاتى يحملن ملامح منطقة الصعيد المصرى بتراثها وآثارها الشامخة عبر طريق الكباش والبهو الفرعونى الشامخ الذى يعكس عبق الحضارة وأصالة التاريخ وشموخ المبدع الفرعونى فى المعمار والنحت والفنون ، ومع كل هذا العبق استطاع القباحى – ببراعة شديدة – أن يفلت من كل ذلك الماضى وجلاله ليحيلنا الى الحاضر ، وكأنه يستدعى التاريخ عبر رحلته الممتدة ليصل بنا الى الآنى – عبر صورة الرئيس المعلقة على الحائط والتى تجسد الفرعون بجبروته ، وعظمته كذلك ، وعبر الاسقاطات والاحالات الدالة عبر اللغة الموحية استطاع بخبرة سليل الفرعون أن يصبح شاهداً على العصور ، أو راوياً للتاريخ ، وناقداً له أيضاً ، فنراه يستلهم القديم ليلبسه عباءة الحاضر ويستشرف لمستقبل الذات والمجتمع والعالم أفضية زمانية ومكانية / طلسمية عكستها بكارة اللغة ومرموزاتها الدلالية ، بل وغوايتها أيضاً .
وانطلاقاً من العتبة النصية للعنوان المفارق الذى يستنطق فيه الكباش الجاثمة حول المعبد نراه يبدأ ديوانه بقصيدة :” ما تأخر من قيام ” ، ليحيلنا الى تسجيلية تاريخية هائلة ، وعبر قصائده التالية : يوم موحش ، يوميات ، الشكاوى ، وبلا رأس ولا قدمين يقدم لنا صوراً تجسيدية لحياة الذات عبر المكان المعبق برائحة التاريخ ، وبمنمنمات الوجد التى تعكسها أصوات الربابة ، وبقايا البيوت الطينية العتيقة ، والمعابد التاريخية كمعبد الكرنك وصور بائعات الخبز ، وتجليات رسائل الأحياء والموتى وكرامات الأولياء ، وحكايات الصمت الممسوس بنهارات الغفلة ، والنهر ، والبيوت والطيور والقرية العجوز وغير ذلك ليحيلنا الى مشهدية وطقوس جنائزية فرعونية / صوفية قديمة / معاصرة ، حيث سهاد المتعبين عبر الطلاسم السحرية التى تمتد فى طرق درب النخيل عبر الطين الطرى والأحجار والفخار وصورة الملك والغانيات والعشاق ورقص الدفوف والمغنيات وغير ذلك مما يعكسه عبق المثولوجيا التى مزجها بروحه ونكهة ذاته الشفيفة والتى دللت اليها لغة الشاعرية التى تنبىء بعارف لخبيئة المفردات ، وجدليات العلاقات والوشائج المموسقة بين التراكيب والصور الباسقة التى تعكس جلال التاريخ المقرون بأحزان البسطاء ، وشكاوى الذات التى تتواشج عبر المعادل الموضوعى وضمنياته مع شكاوى ” الفلاح الفصيح ” – عبر الميثولوجيا الفرعونية الشاهقة ، لذا لاغرو أن يستنطق التاريخ ويستدعيه بصورة لطيفة ذكية عبر أحاديث الكباش الرابضة ، وعبر الموميات والتوابيت ، وهو ستنطقها – عبر الدهشة لدينا – لا لتحدثنا عن الماضى ، بل عن الحاضر الآنى المعاصر مستشرفاً للغة آفاقاً أكثر تعتقاً ، وبنكهة وحنين للماضى عبر موسيقا الحاضر بأوجاعه ورهقه عبر لغة الشاعر الحزينة ، والموشاة بالشجو والشجن الآسن ، وبلغة أقرب للحكى ، وكأنه يكتب حاضره / حاضرنا ، ذاته / ذواتنا المتشرنقة عبر بوابات الماضى والحاضر ، وعبر الذات المأزومة التى تكاد أن تقتلع النخيل من شدة قوتها ورهقها وضراوتها ، يقول عبر ضمير الذات المتكلمة :
( تثاءبت حين اقتلعت النخيل / وقمت تنفض عن كاهليك الثرى / والمقاهى / الدكاكين / دخان خبز الصباح / طوابيرنا المدرسية / برج الكنيسة والمئذنة ) ” الديوان : ص 9 ” .
فهو يعكس هنا ذاته / حالنا وواقعنا الذى يماهيه بمجد الأقدمين ، فلا يجد وجهاً للمقارنة ، لذا – لا غرو – وجدناه يبكى الماضى عبر سهاد المتعبين، حيث الجوع الذى يحوم على طرقات القرية والمدينة والعالم ، يقول :
( جوع يتمطى بين الأقبية / ويلهو برقاب المارة / وحبال عمياء / وبقايا آلهة / تلتف بجمر الأسئلة الخرساء / هل وطن ما دونه الماضون / أو اقترفوا ؟ ) ” الديوان : ص 22 ” .
انه الوطن الحزين عبر صور الماضى والقصص المبتورة على جدران ونقوش طريق الكباش فى مدينته / مدينتنا – الأقصر – ، جيث المدينة يكسوها الضباب ، – وعلى استحياء – تظهر صورة الأنثى الصامتة التى لاتراوده ، ولاتأبه لحضورهبل نراها تداوم الصراخ مع أصوات الكهان الذين يسرجون الخيل برايات رعشتها الصارخة ، يقول :
( مدن بشوكتها / ونهر غارق فى الصمت / أنثى لا تراودنى / وتصرخ / لملمت بعض نوادر السفهاء / واستحييت أكشف / شدنى سهو ولهو عابر / ونداوة فى جبهة الصبح المعبأ بالهتاف ) ” الديوان :ص 41 ” .
انها الدهشة عبر الخوف والفزع الذى يعترى الذات الجزينة من خلال الصور الباذخة ، والجكمة التى تنبرى وتدلل الى شاعرية حكيم يسرد لنا عبر مرويات الماضى ألمه / ألمنا / ألم المجتمع والعالم عبر رحلة الوجع التى تعكسها الصور المتألقة التجريدية الواصفة ، يقول : ( حمى تغادر وقتها / لو كنت أعرف وجهتى / لخطوت متكئاً على سرر الغواية / وافتتحت طبيعتى ) ” الديوان : ص41 ” .
وعبر الشكاوى من الذات والمكان والقرية والمدينة والعالم ، والماضى والحاضر الذى يعتريه السهاد نراه يلتحف الصمت ويتكور على ذاته ويخاف حتى من نفسه ، ومن الأعداء ، بل ومن كل ما حوله ليجسد لنا عبر بردية الخوفقلقه على المستقبل ، يقول : ( أنا خائف منى / ومن نزق يساورنى / أننى غيرى / وأن الأرض تشرق من جبينى /والأعداء لن يصلوا الى / كل ما أرجوه بعض الوقت / كى أغفو قليلاً ) ” الديوان : ص 48 ” ويأتى القسم الثانى ليحدثنا عن ” الأحاديث ” : حديث عازف الناى العجوز ، وجديث من عشق فتكسر ، حديث الكبش المكسور ، حديث الذى اقترب ، ومن تجرأ فحكى ، والذى عرف .. فوقف ، والذى طار فحار ، وحديث المفارق ، وقيامة القرى . وباستقراء شيفرات العناوين تتبدى صوفية الشعرية عنده عبر اللغة التى تشى بحمولات التارخ وبثقافة الشاعر الممزوجة بذاته المقهورة القلقة / تصاويره اللغوية والجمالية / براعته فى الوصف والانتقال من موضوع لآخر عبر لغة تصاويرية مندغمة بمنمنمات صوفية ، أو تراتيل تصدرها موسيقا المعابد الفرعونية التى تأتى من داخل ذاته التى تشبه البهو العميق ، حيث الليل ومشهديات الوقوف أمام جداريات الماضى ، يقول : ( فيما يفتش فى فضاء الوقت / ليل مجهد / عن قاطنيه / ويودع الغرباء غربتهم / حيث المشاهدة امتثال / والوقوف تلاوة والصمت انعتاق / فيما تبين نهاية / ألم البدايات البعيدة / ممعناً فى البوح / تثقله المخاوف / قد لا يطيق الأفق / شهوة واقف / يحلو له / الذوبان فى عرفانه / فيطيل شهقته الأخيرة ) ” الديوان : ص 140-141 ” .
ونلحظ استخدام الشاعر للجمل القصيرة ، وكأنه يكتب وهو يتلعثم من الخوف ، ليصل الى الشهقة الأخيرة ، شهقة الموت الر هيب عبر مشهدية عابد فى محراب الفراعنة يقف بعرفانية متصوف ، أو بجلال راهب / شاهد على العصر / راو / حكاء قديم / معاصر ، يجسد لنا الألم الذاتى النفسى الانسانى عبر العصور ، فنراه وقد غاص مع الماضين فاندغم معهم وتحول عبر وقوف التلاوة وانعتاق الصمت الى راهب هارب من الواقع الى الذات عبر مدارج السالكين، يقف باشتهاء الحياة متلفعاً فى عرفانه وصمته وخوفه وقلقه الوجودى / الممتد ليشهق شهقته الأخيرة والتى طالت حتى وصلت الى عصرنا ، وكأن ديمومة الألم ممتدة معه من الماضى الى الحاضر ، فهو يجسد لنا دور الراوى العليم / الشاهد عبر صلاة الصمت فكأنه تحول الى قديس / راهب / مسيح جديد يحاول أن يأتى بالبشارة والأمل من معية بئر الألم الدفين ليسعى الى خلاص الذات والمجتمع والكون والعالم والحياة .
وتتدافع الصور الجميلة لتعكس لنا شفافية الشاعرية عبر مدارات الوصل وردهات الغمام ومعارج السالكين الى النور والخلاص ، يقول : ( قاب شبرين / الحقيقة / والغمام / بلا ضفاف / وأنا المعلق بين نصلين / الفقيد .. ) ” الديوان : ص 166 ” .
وعبر هندسة التشكيل للجمل القصيرة الموحية ت، يدو فرادة الشعر للغة المفارقة المحملة بمرموزات دينية / جنائزية تنبعث عبر الذات / البهو / ردهات المعبد / طريق الكباش يقف شاعرناً كالغائب / الحاض / الشاهد / الراوى / المشدوه / المجذوب / العاشق عبر صور ولغة تشى بفرادة وسموق ، وتجريدية يقول : ( كنت الوحيد الضيف / والغرباء من حولى وقوفاً صامتين / الساهرون لديهم الوقت الطويل ليشربوا أنخابهم / وخلف مايبدو سماء / أو خرافة عائد من غيبه / تتبدل الأشكال / والضدان يلتقيان ) ” الديوان : ص 171 ” .
انه الشاعر الحزين / المأزوم الذى يبحث عن الحقيقة والجمال والحب عبر انسانية العالم المتبداة فى عبق التاريخ ، ومع أنه كان يتوجع على حمر المرار ويعزف سيمفونية الوجود الانسانى عبر نايه الحزين وصورة المرأة الصامتة المتحجرة الا أنه استطاع أن ينفد ببراعة الى ذواتنا عبر ذاته الرهيفة ، وعبر سكون سراب الوقت ، أو عبر فلسفة الاغتراب والحكمة المجدولة بلغة صافية ممشوقة من سفر الجمال العتيق للحضارة الفرعونية الباسقة الشاهقة .
اننا أمام راهب فى محراب اللغة العتيقة ، وصوفى يتهجد عبر سجادة العصور ، يزعق فى برية السكون وحيداً ليطهرنا عبر الألم لنصل الى الأمل المنشود عبر مدارج السالكين فى رحاب الفراعنة ، وعبر بوابات الدهشة فى أفق العالم والكون والحياة .