د. محمد رجب فضل الله يكتب..
تعليــم الفهم
شهدت الأيام الأولى لامتحانات اللغات: العربية والأجنبية، والمتضمنة قياساً لمدى فهم أبنائنا للنصوص الأدبية والمعلوماتية، وشكوى الطلاب من صعوبة أسئلة ما بعد قراءتها؛ حيث رآها معلمون وأولياء أمور خارجة عن المألوف ، وأعلى من المستويات.
الفهم اللغوي يرتبط – بشكل أساسي – بعملية استقبال اللغة: شفهية كانت أم تحريرية ؛ فالفهم ـ بمستوياته المتدرجة ، والمتعددة ـ هو غاية تعلم الاستماع وتعلم القراءة .
وحيث إن اختبارات الاستماع غائبة في نظامنا التعليمي؛ فإن تأملاتنا – هنا – تركز على اختبارات الفهم القرائي،
القراءة عملية عقلية، يحتل التفكير معظم جوانبها: فهي تعرف واستيعاب ونقد للمقروء ، وتفاعل معه ؛ بغية الاستفادة منه ، والإضافة إليه .
إن اختبار الفهم القرائي، ومدى امتلاك مهاراته ، ولا سيما العليا منها، مطلب تربوي عصري ومهم، خاصة وأن تعلم فهم اللغة يعد سلوكاً إنسانياً ، يمثل ضلعاً من أضلاع مثلث، إلى جانب ضلعي دراسة اكتساب اللغة ، ودراسة إنتاج اللغة .
فهم المقروء يعني الحصول على المعنى المصرح به في السطور المكتوبة ، أو المتضمن فيما بين هذه السطور، أو فيما وراءها، وذلك بعد الانتهاء من قراءتها ، والتفكير فيها، والتفاعل النشط معها شكلا ومضمونا .
إن فهم فقرة مكتوبة يناظر حل مسألة رياضية، فهي تتكون من ترتيب معين وصحيح لعناصر الموقف، ووضعهم معا وفق علاقات صحيحة مع مراعاة أهمية وأثر كل عنصر، وكل ذلك يقع في محيط التناول العقلي الصحيح أو الهدف المطلوب.
الفهم القرائي ـ في أغلبه ـ عملية عقلية ، فبالرغم من بدايته بالإدراك الحسي للرموز والعلامات المكتوبة إلا أن هذا الإدراك يرافقه ويتبعه تركيز وانتباه وتحليل وتركيب، وذلك لإدراك المعاني الصريحة والضمنية للمادة المقروءة. وهو بهذا المعنى “عملية متعددة الأوجه تتأثر بقدرات لغوية وتفكيرية عديدة “.
الفهم القرائي عملية نشطة تتضمن تفسير القارئ للمادة المقروءة ، واستنتاج أفكار ومعانٍ ومبادئ منها، والتفاعل معها في ضوء خلفيته المعرفية، وقراءاته السابقة. “إنه عملية تفاعل ديناميكي حيوي بين القارئ والمقروء”، يستخدم فيها الإنسان كل قوى الإدراك الظاهرة والباطنة التي منحها الله له.
إن تعليم الفهم في القراءة يكون بالتدريب على الربط الصحيح بين الرمز والمعنى، وإخراج المعنى من السياق، واختيار المعنى المناسب، وتنظيم الأفكار المقروءة، وتذكر هذه الأفكار واستخدامها في بعض النشاطات الحاضرة والمستقبلية.
ويثبت تعليم الفهم القرائي باستجابة القارئ للمقروء، وتظهر هذه الاستجابة في تفسيره الدقيق لما يقرأ، وإجابته الصحيحة عن الأسئلة التي تدور حول المقروء، وإصداره لأحكام وآراء بناء على المعاني الواردة في النص المكتوب، وحله لمشكلات خارجة ، أو إضافة شيء جديد يكمل ما قرأ .
إن أبناءنا قادرون على استيعاب الأفكار الرئيسية في محتويات الكتب ، بيد أنهم غير قادرين باستمرار (وبدون التعليم المقصود ، والتدريب المستمرين) على استنتاج الخلاصة أو الفكرة الرئيسية ، أو تحديد الخلاصة بنجاح في معظم الأحيان ، كما أنهم لا يستطيعون تحديد التفاصيل باستخلاصها من نص مكتوب.
وتختلف الاستجابة للمادة المقروءة من قارئ لآخر حسب عوامل عدة منها : ثروة القارئ اللغوية ، وتجاربه وخبراته السابقة ، وميوله ورغباته ، ومواقفه واتجاهاته، وطبيعة المادة المقروءة ، ودرجة صعوبتها، والظروف الفيزيقية المحيطة..
نحتاج – في تعليمنا وفقاً للنظام الجديد – أن نجعل من أبنائنا قراء جيدين. يعكس كل قارئ منهم – في استجابته للمادة المقروءة – ما أخذه منها من ناحية، ويظهر ما يمكن أن يضيفه إليها من ناحية أخرى، حيث يمكنه أن يفسر ما يقرأ وفقا لما أراده الكاتب، أو أن يفسره برؤى خاصة قد لا يكون مصرحا بها في النص، وربما لم يقصدها الكاتب. والأمر الأخير هو المستوى الأعلى المرجو من عملية الفهم القرائي حيث يصل القارئ إلى ما يسمى الآن بالقراءة الإبداعية .
إن تعليم الفهم القرائي مطلب لغوي وتعليمي وتربوي؛ ذلك لأنه يحقق هدفاً أسمى من أهداف القراءة عادة وتدريسا، موجهة كانت أم حرة ؛ فهو الغاية المنشودة من ورائها .
وأصل القراءة أن تكون أولاً للفهم؛ لأن الذاكرة طويلة المدى ـ في حال الفهم ـ تنظم ذاتها تبعا للفهم في فاعلية أكثر ، وبجهد أقل ، لا يدركهما القارئ ، ولايعي أنه ـ والحال هكذا ـ يتعلم ، ومن ثم يمكن القول: إن الفهم القرائي أساس لتعلم المقروء ، والاستفادة منه في تعلم غيره .
وفهم المقروء ـ خاصة في مواقف التعليم ـ ضمان للارتقاء بلغة المتعلم ، وتزويده بأفكار ثرية ، وإلمامه بمعلومات مفيدة، وإكسابه لمهارات النقد في موضوعية، وتعويده على إبداء الرأي وإصدار الأحكام المقرونة بما يؤيدها، ومساعدته على ملاحقة الجديد لمواجهة ما يصادفه من مشكلات ، وتزويده بما يعينه على الإبداع .
إن تنمية القدرة المتزايدة على فهم وتفسير ما يقرأ تحتاج إلى اهتمام مستمر سواء أكانت المادة المقروءة قصصية أو إخبارية .
والفهم القرائي لا يحدث دفعة واحدة لدى المتعلمين، بل يمر في مراحل متدرجة ومتعددة ومتراكمة ومتداخلة ومتفاعلة، فعادة ما يبدأ المتعلم بقراءة السطور المكتوبة واستيعابها، ثم يلتقط ما بين هذه السطور من مجازيات ذات مدلولات أو أفكار ضمنية، تعينه على استخلاص نتائج ، وتحليل مشاعر ، ثم يصل إلى ما وراء هذه السطور ليكوّن رأيا، أو يحل مشكلة، أو يبدع جديداً .
وحتى يتمكن المتعلم من فهم ما يقرأ يجب أن يتوفر لديه: “حصيلة لغوية كافية لتحقيق الفهم، وإتقان لمهارات القراءة الأساسية ، ومعرفة بأن الكلمات غالبا ما تحمل أكثر من معنى يمكن معرفته من خلال السياق .
إن الشكوى التي حدثت من بعض أبنائنا في امتحانات اللغات ( تحديداً ) كشفت في تحليلها عن افتقادهم لكثير من مهارات الفهم القرائي، بل ووقوف الكثيرين منهم عند المستوى الأدنى في مستويات هذا الفهم ، وهو المستوى الذي يسميه البعض مستوى الفهم الحرفي ، والذي يتوقف عند حدود فهم المعاني الحقيقية للكلمات الواردة في الموضوع المقروء ، وتحديد فكرته الصريحة ، وتحديد تفاصيله ، وفهم تنظيم الكاتب له، واستيعاب التعليمات والتوجيهات الواردة فيه.
ولم يصل الفهم لدى معظم أبنائنا عند المستويات الأعلى ومنها : مستوى الفهم التفسيري ، والذي يستطيع المتعلم من خلاله تفسير المفردات المجازية ، وإدراك ما تهدف إليه، وتحديد الأفكار الضمنية ، واستخلاص النتائج من المعلومات المعروضة ، وتمييز الأحداث الواردة، وتحليل مشاعر كاتب الموضوع ، والشخصيات التي يتحدث على لسانها .
ويندر أن نجد من بين الأبناء في الأجيال الحالية من ارتقى فهمه للمقروء إلى ما نسميه مستوى الفهم التطبيقي، والذي يكون القارئ ( خلاله ) قادراً على نقد المقروء بإصدار حكم أو رأي فيه ، وتحديد مدى دقته العلمية، والتمييز بين ما فيه من حقائق وآراء ، والاستفادة منه في حل المشكلات، واستثماره لفظا وفكرا عند الكلام أو الكتابة بالجديد غير المألوف .
هذه ملامح الرؤية المستقبلية الناتجة من تأمل الشكوى من القراءة ، وتحليلها ، والاقتراب من سبب رئيس لهذه الشكوى، تتحدد معه المشكلة في ضعف الفهم القرائي، والحاجة إلى تعليم هذا الفهم في مستوياته، ومهاراته العليا، وهو المأمول.. وللتأملات بقية إذا كان في العمر بقية.