الفتوات في مصر بين البطولة الشعبية والنفوذ الموازي كما رآهم الجبرتي

يقدم كتاب عبد الرحمن الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار “شهادة تاريخية دقيقة وثرية عن ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، ومن أبرز الفئات التي رصدها الجبرتي في زمن الأزمات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، فئة الفتوات، الذين شكلوا عنصرًا محوريًا في المشهد الشعبي المحلي وتركوا أثرًا واضحًا في أحياء القاهرة.
الفتوة قائد الحي ومدبر شؤونه اليومية
امتلك الفتوة مكانة خاصة في قلب المجتمع المصري، إذ تولى أدوارًا متعددة ومتشعبة جمعت بين القوة والنفوذ والقيادة الشعبية، ومع ضعف السلطة المركزية خلال فترات حساسة مثل الحملة الفرنسية على مصر بين عامي 1798 و1801، أو في زمن الصراع بين المماليك والعثمانيين، لعب الفتوات دورًا محوريًا تمثل في حماية السكان من الاعتداءات، وضبط الأسواق والحارات، والتدخل لحل النزاعات، مستندين في ذلك إلى تأثيرهم الشعبي وقوة حضورهم في المشهد العام.
ورغم دورهم في فرض الأمن والنظام، لاحقتهم اتهامات عديدة من قبل البعض باستخدام سلطتهم لفرض الإتاوات والتسلط على الأهالي، ما جعل صورتهم في الوعي الجمعي تتراوح بين البطولة والإكراه.
عندما تحولت الفتونة إلى مقاومة منظمة ضد الاحتلال
برز الفتوات كأبطال شعبيين في فترة الاحتلال الفرنسي لمصر، لا سيما أثناء اندلاع ثورة القاهرة الأولى في عام 1798، و أشار الجبرتي إلى نزول الفتوات من مناطق مثل بولاق ومصر القديمة للمشاركة الفاعلة في مواجهة الفرنسيين، حيث استغلوا معرفتهم الدقيقة بالشوارع والحارات في تنظيم الكمائن والهجمات.
سجل الجبرتي هذه اللحظات قائلا إن الفتوات والعامة خرجوا وواجهوا الفرنسيين قتالا عنيفا، قتلوا منهم العديد، وغنموا ممتلكاتهم، وتعكس هذه الشهادة التحول الذي طرأ على الفتوات من مجرد زعماء أحياء إلى قادة ميدانيين يقودون المقاومة الشعبية بتنظيم عفوي وروح جماعية.
الفتوة بين قوة الحي وتحالفات النفوذ
لم يحمل تاريخ الفتوات صورة مثالية بالكامل، فبينما قاوم بعضهم المحتلين، استغل آخرون سلطتهم لتحقيق النفوذ أو التحالف مع قوى سياسية كالماليك والعثمانيين، ومع بزوغ نجم محمد علي باشا، سعى هذا الأخير للحد من نفوذهم، إما بالاحتواء أو بالإقصاء، في إطار مشروعه لبناء سلطة مركزية قوية تنهي أشكال السلطة الموازية داخل المجتمع.
قيمة رواية الجبرتي في فهم المجتمع المصري
يحظى عبد الرحمن الجبرتي بمكانة فريدة بين المؤرخين، كونه لم يكن فقط شاهد عيان على تحولات كبرى في تاريخ مصر، بل أيضا رجل علم أزهري جمع بين المعرفة والدقة والقدرة على تحليل المشهد بوعي نقدي رغم ميوله للانضباط والنظام، أقر الجبرتي بالدور الذي لعبه الفتوات خلال الأزمات، لا سيما في مقاومة الاحتلال الفرنسي.
تكشف رواية الجبرتي ملامح شخصية الفتوة التي جمعت بين النخوة والانتهازية، وبين القيادة الشعبية والممارسات القسرية، ما يعكس تعقيدات البنية الاجتماعية المصرية في ذلك العصر، ويمنح القارئ فهمًا أعمق لدور القوى المحلية في تشكيل تاريخ الشعوب.