تاريخ ومزارات

وادان.. جوهرة الصحراء الموريتانية وأم الجامعات العلمية في بلاد شنقيط

تقع مدينة وادان الأثرية في قلب منطقة أدرار شمال موريتانيا، على بعد 100 كيلومتر فقط من مدينة شنقيط التاريخية، وسط عمق الصحراء الكبرى. تمتاز المدينة بتاريخها الضارب في القدم الذي يعود إلى ما قبل الإسلام بقرون طويلة، ما جعلها إحدى أقدم الحواضر الصحراوية التي جمعت بين العلم والتجارة والدين، حتى صنفت ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو بفضل معالمها الأثرية النادرة وبيئتها الثقافية المميزة.

أصل التسمية وبداية الحكاية

يروي المؤرخ الطالب أحمد ولد اطوير الجنة أن اسم وادان عربي الأصل، ويعني “واديين”، أحدهما من العلم والآخر من النخيل، بينما يرى آخرون أن الكلمة صنهاجية الأصل مشتقة من “إوالان”، أي أرض الملح، في إشارة إلى طبيعة المنطقة الغنية بالسباخ والملح.

تاريخ يمتد لآلاف السنين

تشير الروايات التاريخية إلى أن المنطقة التي تحتضن وادان كانت مهداً لقوميات متعددة كالبافور والأزير والماسن والسونوكي، قبل أن تصل إليها قبائل مسوفة ثم طلائع الفاتح عقبة بن نافع، وبعدها الهجرة المرابطية القادمة من المغرب.
وفي مطلع القرن العشرين، استولى الاستعمار الفرنسي على المدينة أثناء حملته لاحتلال موريتانيا.

أما وادان القديمة فقد تأسست قبل الإسلام بنحو ثلاثة آلاف عام، ودخلها الإسلام مبكراً في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وتشير وثيقة قديمة مكتوبة على جلد غزال إلى أن أول صلاة جمعة أقيمت فيها كانت سنة 146 هـ.

وفي عام 1152م (536هـ)، تأسست وادان المعاصرة على يد الحجاج الأربعة من قبيلة إدو الحاج، وهم الحاج يعقوب والحاج عثمان والحاج علي والحاج عبد الرحمن الصائم، الذين شيدوا المسجد العتيق ومنارته التاريخية، لتكون المدينة منارة علمية لنشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية في عمق الصحراء.

وادان مركز العلم والفقه المالكي

لم تكن وادان مجرد مدينة تجارية، بل كانت أقدم جامعة في الصحراء الكبرى، حيث ازدهرت فيها العلوم الشرعية واللغوية، واشتهر علماؤها بنشر كتاب شروح خليل في الفقه المالكي، حتى أصبحت مركزاً رئيسياً للمحاظر العلمية في بلاد شنقيط.
ومن وادان انطلقت الأسانيد الفقهية التي انتشرت لاحقاً في مدن ولاتة وتيشيت وشنقيط. كما احتوت على أقدم مصحف مخطوط في المنطقة، ومخطوطات نادرة منها نسخة من مروج الذهب للمسعودي مكتوبة على جلد الغزال.

شارع الأربعين عالماً.. ذاكرة العلم والقداسة

يعد شارع الأربعين عالماً من أبرز رموز وادان، وهو طريق ضيق يمتد من المسجد العتيق أسفل الجبل إلى المسجد الجديد أعلاه. كان الشارع يضم منازل أربعين عالماً يتداولون العلم والفقه، وتصدح جنباته بتلاوة القرآن ومدائح النبي، مما جعله قبلةً للطلاب والزوار من كل مكان.

وادان.. عاصمة القوافل التجارية

موقع وادان الاستراتيجي جعلها محطة رئيسية للقوافل القادمة من المغرب والمتجهة نحو السودان الغربي. ازدهرت فيها تجارة الملح والذهب والجلود منذ القرن العاشر الهجري، واعتبرت من أهم مراكز التبادل التجاري في الصحراء الكبرى. ورغم الثراء الذي حققته، تميز مجتمعها بروح التكافل والمساواة دون وجود فوارق طبقية حادة.

سورها العظيم ومعالمها الفريدة

تتميز وادان بسورها التاريخي الذي بني قبل أكثر من تسعة قرون بارتفاع أربعة أمتار وسمك متر ونصف، يحيط بالمدينة القديمة بشكل نصف دائري من سفح الجبل حتى قمته، ويحتوي السور على أربع بوابات رئيسية، أبرزها بوابة فم المبروك التي كانت تمر عبرها قوافل الحجاج والتجار من الحجاز ومصر وتونس والسودان، كما تضم المدينة بئراً محصنة تستخدم وقت الحصار، تتصل بممرات سرية وآبار وهمية لحماية المياه من الأعداء.

وفي قلب شارع الأربعين عالماً يقع ضريح العالم الجليل الطالب أحمد ولد اطوير الجنة، الذي خلد اسمه في التاريخ بكتابه رحلة المنى والمنة، التي دون فيها تفاصيل رحلته إلى الحج عام 1245م مروراً بالمغرب ومصر وليبيا وتونس والجزائر.

مكتبات وادان.. كنوز منسية في قلب الرمال

رغم أن المدينة فقدت بريقها بعد تراجع تجارة القوافل، فإن مكتباتها العريقة ما تزال شاهدة على مجدها العلمي، وتضم مخطوطات نادرة تعود إلى ثمانية قرون مضت.
ومن أشهر هذه المكتبات:

  • مكتبة آل محمد السالك
  • مكتبة آل الكتاب
  • مكتبة آل أحمد شريف
  • مكتبة آل عيد

غير أن كثيراً من هذه الكنوز تعرض للضياع والتلف بفعل الإهمال والرطوبة والآفات، بعد أن هجر السكان المدينة مع تغير طرق التجارة وازدهار الموانئ الساحلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى