وطنيات

بورسعيد 1956.. كيف أنقذ حكيم مرجان عشرين ألف مدني تحت القصف؟

في صباح 29 أكتوبر 1956، استيقظت بورسعيد على وقع القصف الجوي العنيف مع بداية العدوان الثلاثي، القوات الإسرائيلية كانت قد اجتاحت سيناء، والطائرات البريطانية والفرنسية قصفت المدينة بلا توقف، مستهدفة الميناء والبنية التحتية المحيطة بقناة السويس، كما أن الشوارع غطتها سحب الدخان، وأصوات الانفجارات اختلطت بصرخات المدنيين الذين احتموا في منازلهم، وسط هذه الأجواء المليئة بالرعب، ظهر اسم حكيم مرجان، رجل الأعمال القبطي القادم من المنيا، كقائد لعملية إجلاء إنسانية غير مسبوقة.

كيف أنقذ حكيم مرجان عشرين ألف مدني تحت القصف

كان حكيم يمتلك شركة مرجان للنقل، التي أدارت أسطولًا ضخمًا يضم نحو ستين حافلة حديثة أغلبها من طراز بيدفورد البريطاني، تعمل بين القاهرة والصعيد والدلتا، بمجرد أن وصله خبر الهجوم في مكتبه بوسط القاهرة، لم ينتظر أي تكليف رسمي، كما اتصل مباشرة بوزير النقل محمد فؤاد الجزار وأعلن استعداده الكامل قائلا إن أسطوله جاهز لنقل المدنيين من بورسعيد إذا حصل على الضوء الأخضر وبالفعل، مع حلول المساء، كان قد وضع خطة محكمة بالتعاون مع الجيش وهيئة الدفاع المدني.

في اليوم التالي، 30 أكتوبر، انطلقت أولى القوافل من القاهرة نحو الإسماعيلية باعتبارها أقرب قاعدة لوجستية إلى مناطق القتال، كما أن الطريق كان محفوفًا بالمخاطر، الجسور مهددة بالقصف، والطائرات المعادية تحلق على ارتفاع منخفض، ورغم ذلك أصر حكيم على مرافقة القافلة الأولى بنفسه، مرتديًا بدلته الأنيقة وقبعته الصغيرة، وجلس بجوار السائق الرئيسي ليوجه السائقين عبر جهاز لاسلكي بدائي طوال الرحلة.

عند وصول القوافل إلى بورسعيد، كانت المشاهد مؤلمة، مئات العائلات اصطفوا عند نقاط التجميع قرب الميناء، يحملون حقائب صغيرة أو أطفالًا فقط، الجيش المصري وجّه المدنيين مباشرة نحو حافلات مرجان التي انتظمت في صفوف منظمة، كل حافلة تسع أربعين راكبًا، لكنها في الظروف الطارئة كانت تحمل أكثر من خمسين، حيث جلس الأطفال على الأرض أو في أحضان أمهاتهم، السائقون عملوا في نوبات متواصلة بإشراف مباشر من حكيم، لنقل الركاب من بورسعيد إلى الإسماعيلية ومنها إلى القاهرة أو دمنهور، في رحلات استغرقت ما بين أربع وست ساعات بسبب الحواجز العسكرية وسوء الطرق.

إحدى القوافل تعرضت لهجوم جوي قرب كوبري الفردان، فتوقفت خمس حافلات دفعة واحدة، حينها أمر حكيم الركاب بالنزول سريعًا والاحتماء في خنادق حفرها الجيش، وظل واقفًا مع السائقين يراقب السماء حتى ابتعدت الطائرات، بعدها أعاد الركاب إلى مقاعدهم وأكمل الرحلة مرددًا جملته الشهيرة لا أحد يُترك هنا، بينما كان يساعد امرأة مسنة على الصعود بنفسه.

على مدار أسبوعين، من أواخر أكتوبر حتى منتصف نوفمبر 1956، نجح أسطول مرجان في إنقاذ نحو عشرين ألف مدني من بورسعيد والسويس والإسماعيلية، كما واجه الفريق نقصًا في الوقود وخطر القصف وإرهاق السائقين، لكن حكيم تعامل مع الموقف بدقة عسكرية، ضمن تزويد الحافلات بالوقود من مستودعات الجيش، ووفّر الطعام والمياه للركاب من مخازن شركته، بل دفع من ماله الخاص لشراء الإمدادات حين نفدت.

لم يكتف بالدور اللوجستي، بل شارك الناس همومهم، كما كان يطمئنهم بكلمات بسيطة ويقول لهم أن مصر قوية وأنهم في أمان، حضوره كقبطي يعمل مع الجيش والمتطوعين المسلمين شكل رمزًا للوحدة الوطنية في تلك اللحظات العصيبة،  مسؤولون حكوميون وثّقوا جهوده، وذكره عبد المنعم القيسوني في مذكراته كأحد أبرز الأمثلة على التضامن الوطني.

بعد انتهاء الأزمة، وجهت له الحكومة خطاب شكر رسمي، وأشاد جمال عبد الناصر بدوره في أحد اجتماعاته مع الوزراء، واصفًا إياه بالرجل الذي جعل حافلاته جسورًا للإنقاذ، ورغم هذا التقدير الكبير، لم يبحث حكيم عن الأضواء، بل عاد إلى عمله كالمعتاد، منتظرًا تحديًا جديدًا فرضه عليه التاريخ لاحقًا مع قرارات التأميم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى