البلاط الذي أسقط المجد الإسلامي في قلب أوروبا وغير مسار التاريخ إلى الأبد

بعد أن بسط المسلمون سيطرتهم على الأندلس، لم تكن جبال البرانس حاجزاً أمام طموحهم في مواصلة الفتوحات نحو بلاد الفرنجة، فقد انطلقت الحملات الأولى بقيادة السمح بن مالك الخولاني بأمر من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، حيث عبرت الجيوش الإسلامية الجبال في بدايات القرن الثامن الميلادي، لتفتح أربونة وتتقدم نحو تولوز، وهناك استشهد الخولاني، فتوقفت مسيرة الفتح مؤقتاً رغم النجاحات الأولى التي أحرزها.
سيطرة المسلمين على الأندلس
تجدد الأمل من جديد بعد سنوات قليلة، عندما قاد عنبسة بن سحيم الكلبي حملة أخرى اجتاحت الأراضي الفرنسية دون مقاومة تذكر، متوغلاً حتى نهر السين وقريباً من باريس، حيث لم تبقَ بينه وبين قلب فرنسا سوى ثلاثين كيلومتراً، غير أن إصابته بجراح قاتلة أوقفت تقدمه، لتنتهي الحملة التي وصلت أبعد نقطة بلغها المسلمون في تاريخهم داخل أوروبا الغربية.
بعد ذلك، ورغم عدة حملات لم تنجح في اختراق الحصون الفرنجية الكبرى، عاد عبد الرحمن الغافقي إلى الواجهة قائداً لإمارة الأندلس، فقاد جيشاً بلغ خمسين ألف مقاتل، يعتبر الأضخم في حملات الفتح الإسلامي نحو فرنسا، حيث اجتاح مدينة آرل ثم واصل المسير عبر الجبال، ففتح ليون وأقطانيا وألحق بدوقها أودو هزيمة ساحقة، مؤسساً لمرحلة حاسمة بدت وكأنها على مشارف النصر النهائي.
في سهل يقع بين مدينتي بواتييه وتور، وعلى مقربة من نهر اللوار، عسكر المسلمون دون أن يدركوا أن جيش شارل مارتل يتحرك باتجاههم، وعندما حاول الغافقي عبور النهر فوجئ بحجم قوات العدو، فعاد إلى معسكره وانتظر المواجهة، ليصطدم الطرفان في سهل عُرف باسم البلاط، وهو اسم أندلسي يشير إلى بناء محاط بالحدائق، فصار هذا السهل مسرحاً لأيام دامية من الصراع.
بدأت المعركة في أواخر شعبان واستمرت تسعة أيام، ظهر خلالها التفوق الإسلامي واضحاً، رغم ثبات العدو في مواقعه، وفي اليوم العاشر اندلع القتال الأعنف، واستمر الطرفان في تبادل الضربات حتى اقترب المسلمون من تحقيق نصر حاسم، لكن الغنائم الكثيرة التي كانت بحوزة الجيش شتتت الانتباه، فتسللت فرقة من فرسان مارتل إلى معسكر الغنائم وسببت الفوضى.
خلال محاولته لإعادة ترتيب الصفوف أصيب الغافقي بسهم قاتل، ففقد الجيش قائده في لحظة حرجة، وتفاقم الاضطراب بين الصفوف، ليبدأ المسلمون الانسحاب المنظم تحت جنح الظلام عائدين إلى سبتمانيا، تاركين وراءهم غنائمهم ومعسكرهم في سهل البلاط، دون أن يدرك العدو انسحابهم حتى صباح اليوم التالي.
مع انكشاف انسحاب المسلمين أدرك الفرنجة أن المعركة انتهت لصالحهم، واعتبرت تلك الهزيمة نقطة النهاية لطموح الأمويين في فتح فرنسا، لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع بين الإسلام والغرب الأوروبي، حيث تجاهلها مؤرخو المسلمين لكنها بقيت في ذاكرة الأوروبيين لحظة فاصلة، صنعت إمبراطورية الفرنجة، التي عبرت القرون اللاحقة تهدد الأندلس وتُسهم في سقوطها بعد نحو سبعة قرون من المجد والصمود.