رحلة البحر الغامضة التي غيرت وجه التاريخ الإسلامي وفتحت قبرص

في عام 28 هـ الموافق 649 م، خط المسلمون فصلاً مدهشاً من فصول الفتح الإسلامي، عندما أبحرت أولى سفنهم تجاه جزيرة قبرص، الجزيرة المنعزلة في قلب البحر المتوسط، والتي طالما كانت مطمعاً للاستراتيجيات البيزنطية بسبب موقعها الغربي من بلاد الشام وشكلها الفريد الذي يشبه الذيل الممتد نحو الساحل السوري، بما تملكه من خصوبة أراضٍ ووفرة فواكه وغنى في المعادن.
فتح جزيرة قبرص لحماية المسلمين
اقترح معاوية بن أبي سفيان، والي الشام، فتح الجزيرة لحماية سواحل المسلمين من غزوات الروم البحرية، إلا أن الخليفة عمر بن الخطاب رفض حينها المغامرة بأرواح المسلمين وسط أمواج لم يألفوها بعد، لكن بعد تولي عثمان بن عفان الخلافة، ألحّ معاوية في طلبه، فوافق الخليفة على الفكرة بشروط تضمن سلامة الجيش وتحقيق الأهداف دون مغامرة غير محسوبة.
جهز معاوية أسطولاً إسلامياً ضخماً، ترافقه نخبة من الصحابة أبرزهم عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام بنت ملحان، كما التحق عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والي مصر، بحملة الفتح من جهة الساحل المصري، ليبحر بأسطول ثانٍ ويلتقي الجيشان عند سواحل قبرص في تحرك عسكري بحري متزامن أظهر تماسك المسلمين وبراعتهم في التنسيق والقيادة.
لم يشهد الفتح قتالاً شرساً أو دموياً، إذ سارع أهل قبرص إلى طلب الصلح تفادياً للمواجهة، فاستجاب معاوية وعقد معهم معاهدة تنص على دفع جزية سنوية مقدارها سبعة آلاف دينار، مع تعهدهم بعدم تقديم أي دعم للروم ضد المسلمين وضمان سلامة القوات الإسلامية أثناء العودة، ما جعل هذا الاتفاق إنجازاً دبلوماسياً يحسب للخلافة الراشدة.
وفي خضم الاستعداد للرحيل، وقعت حادثة مؤثرة، حيث سقطت أم حرام بنت ملحان من دابتها فتوفيت متأثرة بإصاباتها، ودُفنت في قبرص، حيث أُطلق على ضريحها اسم قبر المرأة الصالحة الذي صار مزاراً معروفاً لاحقاً باسم Hala Sultan Tekke، ومحط احترام واستسقاء عند كثيرين على مر العصور.
كان هذا الفتح علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، حيث أثبت المسلمون قدرتهم على خوض الحروب البحرية والانتصار فيها، معززين بذلك أمن الشام ومصر، وناشرين رسالتهم دون حاجة إلى سفك الدماء، مما فتح لهم باب السيطرة البحرية ومهد لفتوحات كبرى لاحقةعبر البحار.