تاريخ ومزارات

عبد القادر الجزائري من فارس الصحراء إلى حكيم الشام

في قلب الصحراء الجزائرية، وتحديداً في قرية القيطنة القريبة من مدينة معسكر، أبصر عبد القادر بن محي الدين النور يوم السادس من سبتمبر عام 1807، وسط أسرة كريمة تعود جذورها إلى سلالة الأدارسة، وقد نشأ في كنف والده محي الدين، أحد شيوخ الطريقة القادرية، الذي غرس فيه بذور العلم والتقوى والقيادة منذ نعومة أظفاره.

من هو عبد القادر الجزائري

تلقى عبد القادر تعليماً متكاملاً جمع بين علوم الدين والدنيا، فحفظ القرآن ودرس الفقه والحديث، كما خاض غمار علوم المنطق والفلسفة، وأتقن الفروسية والتدريب العسكري، ليصقل شخصيته ويؤسس لرحلة قادته إلى صفوف القادة الكبار في تاريخ الأمة.

اصطحب والده في عام 1823 لأداء مناسك الحج، واستغرقت الرحلة عامين زار خلالهما بغداد ودمشق، ونهل من علم أبرز شيوخ الشرق، فاكتسب نضجاً فكرياً مبكراً، وزادته التجربة عمقاً روحياً وبصيرة سياسية أهلته للمهام الكبرى التي كانت بانتظاره.

مع بداية الغزو الفرنسي للجزائر عام 1830، اشتعلت روح المقاومة في البلاد، ووجدت في عبد القادر قائداً طبيعياً، فبايعته قبائل الغرب الجزائري عام 1832 أميراً للجهاد، حيث اتخذ من معسكر عاصمة لدولته، وبدأ في تأسيس جيش منظم وهيكل إداري متطور، وحقق انتصارات أرغمت القوات الفرنسية على التراجع في أكثر من موقع.

دفعت انتصاراته الفرنسيين إلى الجلوس على طاولة المفاوضات، فتم توقيع اتفاقية تافنا عام 1838، والتي منحت الأمير اعترافاً بسيادته على مناطق واسعة من غرب ووسط الجزائر، حيث استغل هذه الفترة لتشييد مؤسسات الدولة، فأنشأ إدارة مركزية، ونظم الضرائب، وأسس محاكم شرعية، كما سعى جاهداً إلى القضاء على الفساد وتوحيد صفوف القبائل.

لكن الهدنة لم تدم طويلاً، إذ عادت فرنسا إلى الهجوم بعد أن دعمت قواتها بإمدادات ضخمة، فاندلع الصراع من جديد، وخاض الأمير معارك ضارية للدفاع عن الأرض، إلا أن الضغوط العسكرية والسياسية تكاثرت، حتى سقطت معاقله واحدة تلو الأخرى، وفي عام 1847 تقدم عبد القادر نحو الاستسلام مقابل ضمان نقله إلى الإسكندرية أو عكا، إلا أن الفرنسيين خالفوا الوعد واحتجزوه في قلعة أمبواز بفرنسا.

أطلق الرئيس الفرنسي لويس نابليون سراحه في عام 1852، فغادر إلى تركيا، ثم انتقل إلى دمشق عام 1855، حيث عاش في كنف العلم والفكر، ودوّن مؤلفات في الفلسفة والشعر، وعرف بين أهل الشام بعلمه وورعه، لكن مواقفه الإنسانية كانت أعظم من كتبه.

في عام 1860، اندلعت فتنة طائفية بين الدروز والموارنة، فتصدر عبد القادر المشهد، وحمى آلاف المسيحيين من الموت، ونجح في احتواء الأزمة، مما نال به احترام العالم، واعتُبر رمزاً للتسامح الإنساني والديني.

في الرابع والعشرين من مايو عام 1883، أسلم الأمير روحه في دمشق، ودُفن إلى جوار الشيخ محي الدين بن عربي، كما أوصى، وفي عام 1965 أعادت الجزائر رفاته إلى الوطن، ليوارى الثرى في مقبرة العالية بالعاصمة، ويظل اسمه محفوراً في ذاكرة الأمة كرمز خالد للمقاومة والحكمة والوحدة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى