علي بن مسعود المعشني يكتب:ما بعد “فخ فاجنر”
علي بن مسعود المعشني يكتب:ما بعد “فخ فاجنر”
سيتحدث العالم كثيرًا وطويلًا عن مسرحية فاجنر التي أخرجها بحنكة واحترافية استخباراتية عالية الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، وأوهم فيها العالم بتمرد كتيبة فاجنر عليه وعلى الجيش الروسي، واحتلالها لمدينة رستوف الروسية المحاذية للحدود الأوكرانية والتي تبعد عن موسكو العاصمة الروسية حوالي 400 كلم فقط، الأمر الذي أسال لعاب وألسنة المُحللين الغربيين بسقوط موسكو في يد قوة فاجنر المُتمردة، وسقوط بوتين معها وهروبه من موسكو! ونهاية الحرب وانتصار أوكرانيا، ومن خلفها الحلفاء والمراهنين عليها في الغرب؛ خاصة وأنَّ التمرد المزعوم من قبل “قوة فاجنر” تزامن مع هجوم عسكري أوكراني مضاد على القوات الروسية راهن الغرب على تغييره لقواعد المعركة على الأرض لصالح أوكرانيا وداعميها الغرب.
في 11 فبراير من عام 1986، سقطت مدينة الفاو (الساحلية العراقية) بكاملها بيد القوات الإيرانية في عملية أسمتها “فجر 8″، وتمكنت خلالها من أسر 60 ألف جندي عراقي دفعة واحدة وبدون مُقاومة تُذكر. ومعركة الفاو لم تكن بتخطيط عسكري بحت فقط؛ بل رافقها تكتيك سياسي إيراني قبلها بأيام قليلة؛ حيث وافق وزير النفط الإيراني حينها على طلب العراق بزيادة حصته من إنتاج النفط عبر منظمة أوبك، والذي فُسر من القيادة السياسية بالعراق حينها ومن المراقبين والمتابعين للشأن النفطي ومجريات يوميات الحرب، أنها إشارة ضعف واستسلام والرغبة في وقف إطلاق النار من قبل إيران، بينما كانت الحشود العسكرية الإيرانية تتأهب للسيطرة الشاملة على الفاو، وقد تحقق لها ذلك.
المُراد من هذا المثل من الحرب العراقية الإيرانية- وهو من جملة أمثلة كثيرة في الحروب ومفاصلها الحرجة- التدليل على أن الخداع والعمليات النوعية وتمثيل الانقسامات والتمردات وخلافه، تعد من أدبيات الحروب، ونتاج تفتق العقول العسكرية والأمنية والسياسية لتحقيق مكاسب وازنة على الأرض.
كثيرون ممن يعلمون- ولكنهم لا يُدركون- ما تعنيه أوكرانيا لروسيا البوتينية وأمنها القومي وحالتها الوجودية، لا يدركون حجم الاستعداد الروسي لهذه الحرب منذ إطاحة الغرب بالحكومة الوطنية في كييف عام 2014، والتي كانت بمثابة إعلان حرب صريح على روسيا من قبل النظام الأوكراني الجديد ورعاته وداعميه في الغرب.
لم يُبيِّن بوتين ويكشف عن عدوانية الغرب وهشاشته وحلف الناتو من بعده في حرب أوكرانيا؛ بل أسقط ورقة التوت التي تواري بها أمريكا عورتها كنمرٍ من ورق ما زال يقاتل العالم ويفرض سطوته على الخانعين بأثر رجعي.
بالعقل والمفاهيم العسكرية، لو فرضنا جدلًا وصدقنا تمرُّد فرقة فاجنر الروسية على الجيش الروسي وسيطرتها على مدينة رستوف، لا يُعقل أن تقف القيادة الروسية مكتوفة الأيدي بجحافل وحداتها العسكرية وعتادها النوعي الخارق وتترقب زحف فاجنر على موسكو، وهي تمتلك خيار تدمير عدتهم وعتادهم بالكامل ومحوهم في رستوف بسلاح نووي تكتيكي واحد. كما لا يُعقل أن يُقارِن عاقلٌ واحد بين التفوق الكمي والعددي للجيش الروسي مُقارنة مع فرقة فاجنر.
الاستراتيجية الروسية في حرب أوكرانيا اعتمدت على عنصرين أرهقا النظام الأوكراني ومن يقف معه وخلفه، وتمثلت في محاربة النظام بمعزلٍ عن الدولة الأوكرانية؛ لأن أوكرانيا تمثل النشأة الأولى للإمبراطورية الروسية. وعملت الاستراتيجية الروسية على إظهار حقيقة أن الحرب والاستهداف لروسيا وأمنها وتاريخها ومكانتها، وليست حربا ضد بوتين، كما يروج الغرب وإعلامه، وهي نبرة عادةً ما يستخدمها الإعلام الغربي في حروبه مع الخصوم والخارجين عن إرادته، وقد سمعناها ضد الرئيس صدام حسين والقائد معمر القذافي، وكأن خلاف الغرب مع الأشخاص، ولا يطمع لاحتلال البلدان والتنكيل بها.
قبل اللقاء.. أمريكا والغرب لا يمكنهم تحقيق أي انتصار نهائي وحقيقي في حروب سلاحها الإرادة أولًا، والتاريخ يكشف لنا كم من شعوب انتصرت بإرادتها على قوى نووية. وبالشكر تدوم النعم.