
د محمد السعيد إدريس يكتب: العراق وهواجس «الخيار السوري»
لسنوات طويلة مضت، كان العراق حريصاً على تحقيق توازن في علاقاته مع كل من إيران والولايات المتحدة. واعتقد كثيرون أن العراق في طريقه إلى وضع نهاية لهذه السياسة التي حملت اسم «النأي بالنفس» عن الصراع الأمريكي – الإيراني، عندما أصدر البرلمان العراقي قراره بإنهاء وجود القوات الأجنبية على أراضيه، وبالتحديد إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وعندها كانت التوقعات مشتتة بين أيٍّ من الخيارات سيفرض نفسه عن العراق: هل خيار التحالف مع إيران، أم خيار العودة العراقية إلى الحاضنة العربية، أم أن تركيا يمكن أن تحلّ مكان إيران كحليف أو كشريك إقليمي، لكن، لم يفكر أحد وقتها أن يكون التوجّه العراقي نحو الولايات المتحدة.
التحول العراقي نحو الولايات المتحدة.. جاء من منظور «التكيف» مع مجمل التطورات الخطيرة التي فرضت نفسها على بيئة الجوار الإقليمي للعراق. وبالتحديد ما حدث في غزة ولبنان وفق ما جرى التعبير عنه بقرارات وقف القتال. التي تكاد تكون قد فرضت نهاية للنفوذ الإيراني في لبنان بعد الضربات الموجعة التي تعرض لها «محور المقاومة».
وبعدها جاء الحدث السوري وسقوط نظام الرئيس بشار الأسد ليقلب معادلة التوازن الإقليمي رأساً على عقب لصالح إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا.
العدوانية الإسرائيلية المفرطة ضد سوريا، سواء بتدمير كامل القدرات العسكرية والاستراتيجية السورية أو احتلال جبل الشيخ ومناطق واسعة في الجنوب السوري وإسقاط اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع بين سوريا وإسرائيل عام 1974، فرضت، دون سابق إنذار، سؤالاً خطيراً بالنسبة للعراق، وهو: هل سيكون العراق ساحة تصفية الحسابات الجديدة من جانب إسرائيل بعد الساحات السورية واللبنانية والفلسطينية؟
العراق وهواجس «الخيار السوري»
السؤال فرض نفسه على كبار المسؤولين العراقيين، وتحدث عن ذلك بوضوح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين. الذي كشف عن توجّه رسمي عراقي لإنهاء وجود الميليشيات العراقية أو على الأقل تجميد وجودها كرقم صعب في العراق خارج عن سيطرة الدولة ويمتد بولائه نحو طهران.
فقد صرح فؤاد حسين (16-1-2025) بأن بغداد تحاول إقناع فصائل مسلحة عراقية قوية خاضت قتالاً ضد القوات الأمريكية. وأطلقت صواريخ وطائرات مسيّرة نحو إسرائيل بالتخلي عن سلاحها أو الانضمام إلى قوات الأمن الرسمية.
وقال «منذ عامين أو ثلاثة كان من المستحيل مناقشة هذا الموضوع في مجتمعنا». لكن اللافت في هذا التحول الجديد ما أشار إليه الوزير العراقي. من أن «كثيرين من الزعماء السياسيين وأحزاب سياسية كثيرة بدأت في إثارة النقاش حول هذا الموضوع.. وآمل أن نتمكن من إقناع زعماء هذه الجماعات بالتخلي عن أسلحتهم.. ثم أن يكونوا جزءاً من القوات المسلحة تحت مسؤولية الحكومة».
لكن تداعيات «التوحش الإسرائيلي» ودخول الولايات المتحدة كطرف مباشر في الحرب مع إسرائيل. وبالتحديد ضد الميليشيات الحوثية اليمنية، وجديد السياسة الأمريكية نحو قطاع غزة ومطالب واشنطن بإخلاء قطاع غزة. وفرض خيار «اللجوء الجماعي» على أهالي غزة، ثم استقرار الأوضاع السياسية في سوريا نسبياً. وزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبغداد (14-3-2025). كلها تطورات دفعت العراق نحو إجراء تغييرات مهمة في المواقف والسياسات وبالتحديد نحو سوريا ونحو إيران.
فعقب لقائه مع وزير الخارجية السوري في بغداد.. أعلن فؤاد حسين وزير الخارجية العراقي طرح فكرة تأسيس «مجلس تعاون» بين بغداد ودمشق. وأكد«احترام علاقات حسن الجوار وعدم التدخل بشؤون الدول»، كما شدد على أهمية الاستقرار في سوريا. لكن التغير في السياسة العراقية من إيران كان الأكثر أهمية في تحديد الإجابة على سؤال: إلى أين سيتجه العراق في ظل التطورات الجديدة بالمنطقة؟ حيث أعلن وزير الخارجية العراقي يوم السبت الماضي في مقابلة تلفزيونية أن«العراق ليس جزءاً من محور المقاومة، ولا يقبل بوحدة الساحات» يؤمن بالساحة العراقية فقط.
فؤاد حسين لم يكتف بذلك لكنه زاد عليه بالقول إن«الدستور العراقي يمنع أي تشكيل مسلح خارج إطار المؤسسة الرسمية العسكرية.. ولا يسمح بخوض حرب ضد أحد بقرار فردي». وقال إن«ما قامت به فصائل عراقية مسلحة منذ أشهر أضر بالعراق كثيراً، ولم يُفد القضية الفلسطينية»، كما أوضح أن«التفكير في مصالح العراق لم يكن سائداً قبل التطورات الأخيرة التي حدثت لاسيما بعد التهديدات الواضحة من قبل الإدارة الأمريكية لدول المنطقة ومنها العراق».
تصريحات الوزير العراقي تخدم مسارين، أولهما محاولة تجنيب العراق أي اعتداءات إسرائيلية بدعم أمريكي، وهذا ما حذر منه فؤاد حسين، وثانيهما الحرص على«النأي بالنفس عن الارتباط بإيران، على نحو ما فعل وزير النفط العراقي حيان عبد الغني الذي لم يتردد في اتهام إيران بتزوير وثائق عراقية لتهريب نفطها. وقال (24-3-2025) «تلقينا استفسارات شفهية بشأن ناقلات نفط احتجزتها القوات الأمريكية في الخليج وكانت تحمل بيانات شحن عراقية.. اتضح أن هذه الناقلات إيرانية وتستخدم وثائق عراقية مزورة.. شرحنا ذلك للجهات المعنية بشفافية تامة».
مؤشرات مهمة لتحولات عراقية لكن يبقى السؤال المهم: إلى أين سيستقر الحال بالعراق، خاصة إذا ما تفجرت الحرب بين الولايات المتحدة وإيران في ظل مخاوف عراقية من تكرار «الخيار السوري».