محمد السقاف والشعر السعودي
كتب – حاتم عبدالهادي السيد
يعد الشاعر / محمد السقاف أحد شعراء السعودية الكبار الذين قدموا العديد من الاعمال الشعرية التي تتسم بالكتابة الشعرية الجديدة؛ كما نلمح تجديدية في الكتابة عبر تضمينه الحكم والفلسفة في كل مناح الديوان مما يجعلنا نقول بأنه يستلهم التراث السعودي الزاخر بالعادات والتقاليد الأصيلة ؛ وفي ديوانه وحيدُا معي نلمح العزلة ؛ كما نرى الصور الفنية السامقة التى أخالها كطاقات ورود تتوزع فى جوانب الديوان ، يقول :
الحبُّ هو تناقض الحياة مع الموت،
والقدرة مع العجز
والبياض مع السواد..
كما يقول أيضاً فى حكمته الجديدة كما يذهب :
فراقٌ آمنٌ خيرٌ من لقاءٍ مخيف،
هذه حكمةٌ جديدةٌ ابتكرتُها
علَّها تُصدَّر إلى أذهان المخدوعين بالحبِّ،
الحبُّ الذي لا يتوانى
عن تقبُّل القرابين
دون مراعاةٍ لآهةٍ
تصيب نافثها في مَقْتَلْ،
لم تعد المواعيدُ تصدُقُ
ولا الساعاتُ تفي بغرض اقتنائها
كلُّ شيءٍ فقد خصوصيته
وكلُّ الوجوه تشابهت
أمامَ نفاقِ المرايا..
وتلك لعمرى رومانسية وشجن وحزن وقهر للذات ، وتحمّل لها أيضاً ، لتجرّعها المرار ، بالصبرعلى جفاء المحبوبة منذ أن غادرت مطار الرياض ، فنراه وهو يودّعها / يودع الغربة أيضاً ، دامع العينين والقلب منكسر ، يقول :
منْ أنتِ أيَّتُها الغريبةُ
كي تسألني عنكِ مدينة الرياض !!
إلى الآن لمْ تُشبعي غريزة “كلاسيكيتي”
ها أنتِ تُدفِئينَ بردَ تباهيكِ
بلظى غيرتي عليكِ
فيعودُ التباهي دافئاً وهوَ “عنيد”..
تُلقين إلى سلةِ لهفتي جملتكِ :
“أنا لكَ وحدكْ”
هذا وتبدو صورة المحبوبة فى الوطن ، أو فى مدينته الرياض ، أى أنه يزاوج بين الحبيبة الحقيقية والوطن ، يقول :
أنا ابنُكِ أيتها المدينة الحانية
عدتُ إليكِ وبي شوقٌ
يكفي لإشعال غاباتٍ
من خشب الأبنوس،
كيف تُنكِرِينَ وجهي..
أشجارُ الرصيف تعرفني
وخيوطُ الهاتف
تحتفظ بدفء قُبُلاتي
التي كنتُ أرسلها إليك..
هل اطَّلعتِ على قلبي
فعرفتِ أنني لم أعُد كما كنت؟
أحتاجُ ضمَّةً واحدةً
إلى صدركِ الأحنى،
أحتاجُ قليلاً من الهواء
لأُنعش به رئتيَّ المـُثقلتين بالغربة والأتربة،
حنانيكِ أيتها الأم
التي لا تنام
إلا بعد أن تتأكد
أن جميع أولادها بقلبها
لن أتركَ حضنكِ ثانية
فقد علَّمتني الغربة
أن لي أمَّاً
اسمها
الرياض.
هذا وباستقراء الشعرية فى عناوين قصائده المائة نلمح خيطاً فريداً يمثل هارمونى مرار الفراق والفقد واللوعة للمحبوبة التى هجرته الى غير رجوع ، أو ابتعدت عنه ، ولا أمل فى جمع الشتيتين المتباعدين ؟!.
وفى ( دهشة الاكتشاف الأول ) يحيلنا – ببراعة واقتدار شديدين – الى صورة اصطفاف الحروف ، أو تراصّها صورة مخصوصة ، أى توزيع الكلمة على أكثر من سطر شعرى ، على أمل عودة المحبوب الغائب ، أو استقبالنا ، ونقول : استقبال من : القارىء الذى يقرأ معه الآن ويكتشف هذا العالم للذات ؟ ام انها الحبيبة – وقد أغفل وضع الكسرة على الكاف ليماهينا بفعل المخاطبة ؟ أم هو استقبال ذاته التى فضَل منذ البداية أن يظل وحيداَ معها ، يقول :
لن أدعكِ تمضين دوني
لا تتركيني أرجوكِ
بدونكِ
سَ
أَ
نْ
طَ
فِ
ئْ..
ان هذه الالغازية تكشف عن مفارقة أولى ، فهل هى لعبة سيموطيقية عبر الدوال فى محاولة منه للاشارة الى من سرق المشار اليه فى النص على حد تعبير رولان بارت ؟! .
ان الشاعر يجنح لاستخدام تقنيات الشعرية ، وتقصيد اللغة المتناغمة التى تسير كنهر يتهادى على ضوء ناى فى ليلة مقمرة ، حيث تتداعى صوره وتنساب كعسجد مخلوط بلجين آثير ، يسحر الروح ، ويسكر العقل فى سيمفونية من جمال السرد والشعرية ، فيحيلنا الى عالم ذات صادحة ، تشكو الألم والوحدة ، وتزعق فى بريّة الفراغ ، لتجابه الصمت وحيدة على أمل عودة المحبوب .
لقد نجح الشاعر / الراوى فى ايراد الصور المتراتبة التى تنمّ عن جمالية واحكام ، لصياغة الشّعرية ، إذ يقبض على المفردات كعارف وخبير بمخصوصيات اللغة ومجازيتها وتدفقها عبر علم الدلالة، وعبر الصورة والظل ، والمعنى المشتبك ، ليحيلنا الى محايثات يتقاطع فيها مع ذواتنا ، التى تحنّ الى حبيب قديم قد فقدته ، ،أو إلى ذكرى معشوقة قديمة تناستها الذاكرة ، وكأنه يماهينا – دون مباشرة – للنبش فى ندوبنا / ندوبه لتذكّر ما كان ، فالحب سيد العالم ، وكل البشر بطبيعتهم المفطورة على الحب تجتذبهم الأنثى ، ويستلبهم الحنين اليها ، وهو تجاذب فطرى ، الى جانب أنه مدّ الهى ، وهو السبب الذى من أجله خلق الله العالم لعبادته والتمتع بمباهج الحياة ، وأول هذه الفواكه الأنثى ، أو المحبوبة ، يقول :
أحبكِ قصيدةً نابضةً
وحرفاً دافئاً
ومعنىً مُبهماً
كي أجلو غموضكِ
وأسبرَ غوركِ
كلَّما أدليتُ بدلوي
في بئرِ أسراركِ العميقِ
حدَّ الخوف من المجهولِ الذي ينتظرني..
أحبكِ ترنيمةً
تتأوَّه بين أوتار الكمنجةِ
كما يتأوَّه القمرُ كلَّما استدار
كما يتأوَّه مفقودٌ وجد طريق البيت،
أحبكِ هكذا
كما أنتِ
تطلِّينَ شمساً دافئةً
على بردِ مساءاتي الموحشة،
موحشةٌ
كغابةٍ أسطوريةٍ مات فيها كلُّ شيء،
حتى الأشجار ماتت واقفةً
بعد أن تلَبَّسَتْها أرواحٌ شريرةٌ
لا يقدر على مقاومتها أحدْ..
اذن الشاعر يدفع بالقارىء الى شركه الذى نصبه بمهارة ، ليوقعه ، ويوقعنا ، فى فخ ذاته ، فنجد أنفسنا متشاركين معه فى لعبته الشعرية ، أو فى خطابه الزّاعق ونحن متلبّسين فى ذلك دوناّ عنّا ، وفى ذلك حصافة شاعر يأخذ الانسان فى معيّته عن طريق الألم ، أو الشفقة لحاله ، ثم يشتبك مع الكون والعالم والذات فى صراع لغوى وجمالى ، بل وهو يصرخ كالعصفور على حافة مقلاة الزيت التى تحرق قدميه الصغيرتين البريئتين ، يقول :
أنا عاشقٌ
حدَّ الثُّمالةِ
ومترسِّبٌ
في قعر نهر الحبِّ
كحصىً تتكلَّسُ بعتاقَةِ الشجنْ،
خذي من حشاشتي ما شئتِ
فقد نذرتُ روحي لحبٍّ غير مشروط،
يكفي أن أحبكِ فقط
ولا شيءَ يعنيني غير ذلك..
هذا ويستخدم الشاعر التّناص الاحالى ، مع الموروث، كما يستخدم ( تناثر التناص .. وتوزيعه ) ، عبرأجزاء النسق ، ليعيد انتاجيته ، بصورة أكثر اشراقا للذات ، لتعبّر عن أحوالها العديدة المتشابكة ، والصارخة الحزينة أيضاً ، لذا نراه يستخدم الحكمة ، أو يبتدع حكمة ، أو يتغنّى مع المطري الشهير ( محمد عبده ) فيمزج الشعر العمودى بالنثرى ، وهو مزج فى معرض تبيان الحال الشاعرة ، وقد نجح فى ذلك أيّماً نجاح ،كما يركّز العاشق فى خطابه على أنها عشر سنوات ، وتلك الزمانية التى هو محور مكانيتها أيضاً ، تحيلنا الى حاله المزدرى خلال هذه الأعوام العشرة ، يقول :
الرياض ليست كعادتها
الأعلامُ ترفرفُ بزهوٍ
يشبه نشوة النصر بعد المعركة..
رجل المرور مبتهج
– رغم الحرّ –
كأنه اكتشف سرَّ عظمته
وهو يحركُ أربعة اتجاهات
بإشارةٍ واحدةٍ من يده..
الإذاعة تبثُّ أغانيَ
تقول كلَّ ما أريد قوله
كأنني أنا المذيعُ المناوب
في الاستوديو..
محمد عبده
يدري أن الأماكن تشتاق مجازاً فقط
ها هو الآن يصدح:
الأماااااااااااااااااكن
بلوعة مختلفة
كما لو أنه اكتشف الحقيقة للتَّو .
كما يحيلنا الى مسالة الدفاع عن ذاته ، ليثبت لذاته أولاً أنه لازال المهاب ، وهو الذى ترك لها أمره ، تسيّره حيث يشاء ، ويذهب وراءها كالمتبوع ن والممسوس ، أو المجذوب فى أحواله ، وخرقته الصوفية ، اذ لا يهمه كىّ الملابس ، ولا تسريحة الشعر ، ولا تهيئية الهندام ، طالما أن الماهيّة فارغة من الداخل ، ليدلّل الى أن العمق دليل الأصالة ، وأن المظهريات لا تشكّل لديه سوى القشور التى لا يلتفت اليها بفعل البعاد ، فلمن يتجمل ، والحبيبة بعيدة ؟! .
كما يحيلنا الى حيل دفاعية ، فكأن يهجوها فى النهاية ، فى محاولة منه لاقناع قلبه بنسيانها ، أو انتزاعها ،الا أن القلب يكاد يصرعه ، ويهدده بالتّوقف عن الضّخ ، ليعود من جديد عبر دوائر السيموطيقا والفيزياء الرياضية الى المركز ، أو حالته الأولى . ومع شدّه ، وجذبه ، ومحاولة الابتعاد ، وحيل الدفاع من جانب الذات ، الا أن قلبه الواهن أمام سطوة حبها يحيله الى كائن ضعيف ، وان حاول أن يظهر فى النهاية بحالة من التثبت ، والقوّة ، وعدم اللامبالاة ، الا أنها نكوصات استظهارية لاثبات رجولته ، أو لعدم فضح أمره : ( بأمر الحب وليس بأمره ) ، كما تقول أغنية ( أم كلثوم ) ، والتى يحاول أن يستدعيها ، لتعضّدد من موقفه الذى بات يحسد عليه من الآخرين ، أو أمام ذاته الجوعانة ، والمتعطّشة للحب ، والحياة ، والظهور بمظهرالقوة ، لا بمظهرالضعف والاستكانة ، لذا رأيناه يصف الحب بالسّراب والوهم ، ثم ينكأ الفكرة ، وكأنه يرضى القارىء من وراء قلبه ، ثم يعود سرّاً لحالة المأسور بأمر الحب، يقول :
(واثقُ الخطوة يمشي مَلَكاً)
سئمتُ هذا البيتَ
لكثرة ما ردَّدِتِه
على مسامعي
لم تخشي أن يتحوَّل الحدُّ إلى ضدٍّ
لأنكِ كنتِ تأخذين الأمورَ
من الزاوية التي تحلو لكِ
حتى وإن كانت نظرتُكِ خاطئهْ..
ان الديوان هو اعادة لصورة المحب فى الشعر العربى القديم ، كعنترة وعبلة ، وقيس وليلى ، وغيرهم ، الا أن تجربته يراها أقسى ، أو هو يكرر التّجربة ، ليخلّد المحبوبة ، أو قصة الحب التى استمرت لعشر سنوات ، والتى – فيما يبدو – ستستمر ، وان كان قد نفض عن نفسه هذه الفكرة ، وافاق كما يزعم ، الا ان الأمر مختلف بالطّبع ، يقول :
السَّأمُ يلاحقني
ويتجسَّدُ أمامي
أين ما ذهبتُ
وأين ما توقَّفتُ
أنا قلبٌ عاشقٌ
أضنَته المسافاتُ
وتقطَّعت به السُّبلُ
وضاقت به رحابةُ الفضاء،
من يشتري هذا القلبَ المُتعبَ
من يشتري هذا الحبَّ .
ان الشاعر / محمد السقاف قد استطاع عبر لغته الآثرة ، الباذخة ، السامقة ،الرشيقة ، أن يعيد الرومانسية العربية الى أوج عظمتها ، وفى هذا تفرّد يحسب له ، ونحن نثمّن هذه التجربة فى الفراق ، واللّوعة ، والحرمان لمحب وله ، تدلّه فى الحب ، وعاشه حتى بليت عظامه ، وذبل عوده حتى كاد أن يفنى ، يقول عن نفسه :
محمد السقاف :
أهذا أنت ؟؟
كوبُ الشاي شَبِعَ برداً وانتظاراً في يدي
وأنا أستخدمه كمرآة
لمشاهدة وجهي ببهجته الأولى .
انه شاعر يفلسف الحب والعالم وهو يشرب فنجان شايه فى شرفته النائية ، القرية من القلب ، والحبيبة ، والعالم ، والمجتمع أيضاً .
وفى النهاية نقول : ان الحب أسمى معانى الحياة ، وقد استطاع الشاعر الرائع / محمد السّقاف أن يعيد انتاجية الغرام بصورة أكثر اشراقاً ، وتميّزاً ، كما نجح ليأخذنا معه ، رغماً عنّا ، وعنه ، أيضاً ، لنشاركه الاشتباك الوجودى ، والجمالى مع الذات ، والعالم ، والكون ، والحياة ، ويبقى الحب هو سيد الكون ، وليبق الشاعر / محمد السّقاف متربعاً على عرش الغرام ، كواحد من المحبين الكبار ، أو كفيلسوف تلفّع بالحب ليعيد اكتشاف العالم ، وذواتنا أيضاً .