تاريخ ومزارات

ورد الجبل الأخضر.. عبق الزهور يحرك عجلة الاقتصاد ويستقطب السياحة في عمان

أميرة جادو

في قلب عمان، وعلى ارتفاع يقارب 3 آلاف متر عن سطح البحر، يمتد الجبل الأخضر شامخاً بما يحمله من إرث طبيعي وثقافي فريد، ليشكل لوحة خضراء تتزين كل ربيع بتفتح زهور الورد العماني، الذي يعتبر من أهم المحاصيل الموسمية في البلاد وأكثرها تأثيراً على حياة الأهالي في الولاية.

إرث لا يقتصر على الجمال

لكن قصة الورد هنا ليست مجرد موسم زراعي عابر، بل هي حكاية تمتد جذورها في أعماق الأرض، وفروعها في جوانب الاقتصاد والسياحة والتراث.

موسم اقتصادي وسياحي

لا يقتصر المشهد على لوحة جمالية مبهرة، بل تعلن الطبيعة موسماً اقتصادياً وسياحياً تزدهر فيه الحياة، ويستعيد فيه الأهالي مهنة متوارثة توارثها الأحفاد عن الأجداد: استخلاص ماء الورد.

حرفة متوارثة

زراعة الورد، وتقطيره، من المهن المتوارثة في ولاية الجبل الأخضر، وهي من المهن التي تعكس العلاقة الوثيقة بين الأرض والإنسان.

يقول علي بن يحيى العمري، وهو مزارع ومنتج لماء الورد في ولاية الجبل الأخضر: “تعد زراعة الورد وتقطيره، المحصول الاقتصادي الثاني للمزارعين في الولاية، وهي حرفة عائلية توارثناها جيلاً بعد جيل، لا نزال نحافظ على التقطير بالطريقة التقليدية باستخدام فرن (الدهجان)، رغم إدخال بعض الأدوات الحديثة التي حسّنت من جودة الإنتاج”.

تطور عملية استخراج ماء الورد

تطورت عملية استخراج ماء الورد، في ولاية الجبل الأخضر، من الطريقة التقليدية المعروفة باسم “الدهجان”، وصولاً إلى التقطير البخاري.

الطريقة التقليدية (الدهجان)

هذه الطريقة لا تزال تحافظ على طابعها التراثي، وتحمل كثيراً من القيمة الرمزية والثقافية للسكان المحليين، ولها عدة مراحل:

  • تعبئة المرجل: توضع كمية من الورد في قدر نحاسية داخل “الدهجان”، ويضاف إليها قليل من الماء، يعلوه إناء لتجميع البخار المتصاعد.
  • إشعال النار: تشعل النار تحت القدر، وتبدأ الزهور في إطلاق أبخرتها الغنية بالزيوت العطرية.
  • التكثف الطبيعي: البخار المتصاعد يصطدم بقرص فخاري مثبّت أعلى المرجل، مملوء بالماء البارد، وهذا السطح البارد يحول البخار إلى قطرات سائلة.
  • جمع ماء الورد: تتساقط القطرات في إناء نحاسي أسفل القرص الفخاري، ويتم تجميعها كماء ورد نقي، في عملية تستغرق ما بين ساعتين وثلاث ساعات.
  • الترسيب الطبيعي: بعد اكتمال التقطير، يفرغ ماء الورد في أوانٍ فخارية كبيرة، ويترك فيها لعدة أشهر حتى تترسب الشوائب الناتجة عن عملية الاحتراق.
  • التعبئة: يعبأ السائل الصافي في زجاجات بأحجام مختلفة، ويصبح بعدها جاهزاً للبيع أو الاستخدام المنزلي.

الطريقة الحديثة (التقطير البخاري)

في السنوات الأخيرة، سعى بعض المنتجين إلى استخدام أجهزة تقطير كهربائية حديثة، تسمح باستخلاص ماء الورد وزيته العطري بكفاءة أعلى، وقد ساهمت هذه الأجهزة في التالي:

  • زيادة الإنتاج وتحسين الجودة.
  • استخلاص دهن الورد، الذي يعتبر من المواد العطرية الفاخرة ومرتفعة السعر.
    تحقيق الاستدامة البيئية من خلال تقليل الفاقد في عملية التقطير.

تسويق ماء الورد

يعبأ ماء الورد في زجاجات من الزجاج أو البلاستيك، ويوزع في الأسواق المحلية أو يشحن إلى الأسواق الخليجية والعربية. كما يستخدم ماء الورد كمكون أساسي في صناعة الحلوى العمانية، والمستحضرات التجميلية والعلاجية.

أثر اقتصادي

يمثل موسم الورد فرصة اقتصادية ثمينة لأهالي الجبل الأخضر، إذ يتحول إلى موسم عمل ونشاط تجاري متكامل.

وفي هذا الإطار، يقول ضاوي بن سالم بن محمد الفلاحي، أحد أبناء الولاية، إن لهذا الموسم انعكاسات اقتصادية مباشرة وغير مباشرة على الأسر، مضيفًا: “الورد مصدر دخل رئيس لعديد من الأسر، حيث يعمل أفرادها في زراعته وقطفه وتقطيره. حتى الأسر التي لا تمتلك معدات تقطير تكتفي ببيع الورد لمن يقوم بهذه العملية”.

انعكاسات اقتصادية لموسم الورد

ومن أبرز الانعكاسات الاقتصادية لموسم الورد:

  • زيادة دخل الأسر المنتجة.
  • تحفيز التعاونيات الزراعية على التنسيق والتسويق.
  • خلق فرص عمل موسمية للرجال والنساء على حد سواء.
  • تمكين المرأة اقتصادياً من خلال مشاركتها في الإنتاج المنزلي والتسويق.
  • تشجيع المشاريع الصغيرة مثل تعبئة ماء الورد، وتصنيع منتجات تجميلية تقليدية.

ازدهار السياحة

وليس الاقتصاد وحده من يستفيد من موسم الورد، بل السياحة أيضاً، إذ يتحول الجبل الأخضر خلال هذه الفترة إلى مقصد سياحي رئيس، يجتذب الزوار من داخل السلطنة وخارجها.

ويرتبط الموسم بسلسلة من الأنشطة السياحية، منها:

  • زيارة مزارع الورد ومتابعة مراحل التقطير التقليدية.
  • شراء المنتجات المحلية مثل ماء الورد، ودهن الورد، والصابون العطري.
  • الإقامة في النزل الريفية والاستمتاع بالأجواء الطبيعية والمناخ المعتدل.

ويؤكد الفلاحي أن هذه الأنشطة تعود بالنفع المباشر على الاقتصاد المحلي، حيث تنشط الفنادق والمطاعم والنقل والخدمات السياحية، وتعزز مكانة الجبل الأخضر كوجهة متميزة.

نمو الإنتاج

ويشار إلى أن موسم الورد في ولاية الجبل الأخضر، خلال العام الزراعي الماضي (2024)، شهد نمواً لافتاً في حجم الإنتاج، ليؤكد الدور المتصاعد لهذا القطاع في الاقتصاد المحلي للولاية.

كما تشير أحدث الإحصائيات الرسمية الصادرة عن مركز الأعمال والحاضنات بهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إلى أن إجمالي إنتاج الورد في 2024 بلغ نحو 20 طناً، مسجلاً ارتفاعاً ملحوظاً بمقدار 9 أطنان مقارنة بموسم 2023، في حين قدرت القيمة السوقية لهذا الإنتاج بنحو 200 ألف ريال عماني (520 ألف دولار).

وتظهر البيانات أن عدد أشجار الورد في الجبل الأخضر تجاوز 5 آلاف شجرة، موزعة على مدرجات زراعية في قرى مثل: سيق، والعين، والشريجة، والقشع، وغيرها من المناطق التي تشتهر بزراعة الورد.

والجدير بالذكر أن المساحة المزروعة تقدر بين 7 و10 أفدنة، ما يعكس اتساع نطاق هذا النشاط الزراعي وارتفاع مردوده الاقتصادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى