فنون و ادب

قراءة في ديوان رامبو (فصل في الجحيم)

حاتم عبدالهادي السيد

هل‎ ‎كان بوسع شاعر فرنسا العظيم آرثر رامبو أن يغنى مع جان دارك أغنيات الوجع‎ ‎الشهي وهى تتلقى بسرور وغبطة ‏حكم المحكمة الجائر وغير الحكيم؟! أم تراه‎ ‎يرافق المسيح في حله وترحاله ومجادلاته مع الحواريين، ليعقد المفارقة‎ ‎العظيمة بين الخير والشر، والشقاء والحزن؟.

أم تراه يتجرع السم راضياً مثل‎ ‎سقراط العظيم وهو يلقن أثينا درساً في ‏الأخلاق والحكمة؟‎! .

الفلسفة الرمزية وشعر رامبو

إنها‎ ‎الفلسفة الرمزية التي تبلورت في ذهنه منذ أن ولد عام 1854م في مدينة‎ ‎شارلفيل بشمال شرقي فرنسا، ثم تبلورت أكثر ‏عندما ترك منزل الأسرة ليهيم في‎ ‎طرقات فرنسا ويكتب عن الصراع الثوري هناك، ثم يتبلور كل ذلك فيكتب قصيدة‎ ” ‎القارب الثمل” .

وفي القصيدة يدون كل ما بداخله من حيرة وثورة وشعور بالإثم‎ ‎التماساً للحرية والتحرر، ثم تبدأ مرحلة أخرى ‏فيتعرف إلى الشاعر “بول‎ ‎فرلين” والذي يهرب معه إلى انجلترا متسكعاً بعد أن يترك عروسه ومنزله‎ ‎فنراهما هائمين معاً ‏في طرقات العالم، يكتبان الشعر ويحاولان في صراع عتيد‎ ‎إثبات ذاتهما ولو بإفناء أحدهما للآخر.

بين فرلين ورامبو

لقد راينا فرلين يصوب ‏مسدسه نحوه ليقتله‎ ‎فتنطلق الرصاصة لتصيب يد رامبو بجراح، فيحكم على فرلين بالحبس لمدة عامين،‎ ‎ويعود رامبو ثانية ‏إلى جوار أمه جزيناً، ثم لا يلبث أن يترك فرنسا ثم نراه‎ ‎يهرب إلى باريس عام 1871م ويتحمس لحكومة الكومون ” “La ‎commune ‎ الاشتراكية.

‎ثم يكتب شعراً ثورياً ضد الأوضاع السياسية وفيه يمجد الصراع الثوري،‎ ‎ثم يهرب بعد ذلك ‏لحياة الحانات بعيداً عن الشعر ونراه ينقطع بعد ذلك عنه‎ ‎ليقوم بسلسلة من الرحلات بدأ بألمانيا حيث عمل تاجراً هناك، ثم ‏ذهب إلى‎ ‎هولندا وتطوع بالجيش فتم إرساله لجزر الهند الشرقية (أندونيسيا).

إلا أن‎ ‎حياته المتقلبة جعلته يهرب مرة أخرى ‏فتراه يعمل بحاراً في سفينة شراعية في‎ ‎باتافيا (جاكارتا)، ثم عاد إلى فرنسا عام 1877م، ولم يكمل العام في فرنسا‎ ‎حتى ‏رأيناه يهرب مرة أخرى إلى النمسا وهولندا والسويد وسويسرا ثم إلى قبرص.

مرض رامبو

‎وهناك مرض بالتيفوئيد فعاد إلى فرنسا، ثم ‏أبحر إلى الإسكندرية والأقصر‎ ‎ولكنه لم يجد عملاً في مصر فأبحر إلى عدن وإلى مدينة هرر بأثيوبيا وهناك‏‎ ‎تعلم العربية ‏والسواحلية، ثم رأيناه بذهب منفرداً إلى صحراء الأجادين‎ ‎ليكتب للشركة التي عين فيها في أثيوبيا تقريراً علمياً بعثه إلى ‏جمعية‎ ‎الجغرافيا الفرنسية.

ولعل هذا التقرير كما يقول – مجدي وهبة – في تقديمه‏‎ ‎لديوان فصل في الجحيم – هو الشيء الوحيد ‏الذي كتبه بعد أن هجر الأدب، وهناك‎ ‎نراه يتصل بالإمبراطور الأثيوبي ” مينليك الأكبر ” كما عمل بتجارة الرقيق‎ ‎مع ‏عرب السواحل والإمبراطور الحبشي إلا أنه أصيب بآلام شديدة في ساقه‎ ‎فعاد إلى فرنسا.

وفاة رامبو

وفى مرسيليا ظل قابعاً في ‏المستشفى حتى بترت ساقه ثم مات‎ ‎يوم 10 نوفمبر سنة 1891م عن عمر يناهز السابعة والثلاثين من عمره .ومع قصر هذه المدة إلا أن رامبو استطاع أن يؤثر في الشعر الأوروبي كله‎ ‎آنذاك، بل وأنه وصديقه فرلين استطاعا أن ‏يؤثرا في مدرسة الشعراء الرمزيين‎ ‎في فرنسا كلها‎ .

انها رحلة حياة قلقة مترحلة هائمة في محراب الحياة،‎ ‎عاشها رامبو من أجل البحث عن فلسفة الذات والصدق المطلق، وهذا ‏ما جعله يؤثر‎ ‎في الشعر الأوروبي آنذاك والذي التزم الصيغ الشعرية وانضباط النظم، إلا أن‎ ‎ظهور الرومانتيكيات الأوروبية ‏ورامبو قد غير مسيرة الشعر لا في فرنسا‎ ‎وحدها بل في أوروبا أجمع إذ أن مسألة الصدق المطلق والذي يصل إلى درجة‎ ‎الغموض والتعقيد قد جعل رامبو من رواد الرمزية في العالم.

وكيف لا يكون رائدًا للرمزية، وحياته‎ ‎كلها غموض ورموز وإشارات وعدم هدوء، ‏وما رحلاته الكثيرة إلا من أجل الوصول‎ ‎إلى حقيقة النفس وماهية الروح فكان أشبه بفيلسوف يحاول إعادة صياغة الوجود‎ ‎بروح الشعر الحالمة، وبرمزية مغلقة باستشراف لأفق مستقبل غير معلوم،‎ ‎مستقبل فيه الجوهر هو المثال، وما الشكل ‏والشكلية سوى طلاسم وخيالات،‎ ‎فماذا عساه أن يكتب؟ وبماذا كان ينادى في ديوانه فصل في الجحيم ؟! ‎.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى