كنائس ليبيا ذاكرة تقاوم العواصف والتطرف
اما في مدينة درنة، فيبرز بناء واحد صمد امام سنوات طويلة من الحرب والتطرف والاضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية التي تعاقبت على المدينة، وهو الكنيسة الكاثوليكية المعروفة بكنيسة القديس فرنسيس الاسيزي، التي شيدها الايطاليون خلال فترة الاستعمار داخل النسيج العمراني القديم لدرنة، هذا المبنى بواجهته البسيطة ونافذته الدائرية التي تتوسط الواجهة، ظل واقفا في وجه التحولات القاسية، حتى تحول عام 1997 الى بيت درنة الثقافي، ليصبح منذ ذلك الحين شعلة تنير عتمة الفكر ومساحة للثقافة والحوار، الى ان جاء اعصار دانيال في اواخر عام 2023 ليغمر المدينة بالخراب ويمر ايضا على هذا المعلم الذي شهد تاريخا طويلا من الصمود.
ما هي كنائس ليبيا
الكنائس في ليبيا قد لا تحتل مكانة الجمال الاولى عالميا ولا حتى عربيا، لكن ظروف نشأتها ومسيرتها عبر الزمن منحتها قيمة مضاعفة، فعندما كانت مغارات الاثرون ملاذا للمؤمنين الهاربين من الاضطهاد وخلوة للرهبان الزاهدين، وهي تتشكل بين الارض والسماء، وعندما تقف الكنائس لاحقا في وجه اوامر الازالة ورياح التطرف، فإنها تكتسب جمالا من نوع اخر، فهي لم تمثل يوما خطرا على عقيدة اهل البلاد، ولم تكن سوى جزء من نسيج تاريخي متنوع عاش على هذه الارض.
ومن كاتدرائية بنغازي الى كنيسة القديس فرنسيس في درنة، واجهت الكنائس القصف والتخريب، وبقيت شاهدة على حقبة معمارية وثقافية تقاوم النسيان، لقد تحولت هذه المباني الى ذاكرة حجرية تصارع الزمن، وتروي حكاية مدن عاشت التعدد دون صدام.
ويروي الكاتب محمد ابو خريص تجربة شخصية داخل بيت درنة الثقافي، حين تحدث عن امسية ثقافية قضاها في المبنى الذي كان في الاصل كنيسة شيدت في ثلاثينات القرن الماضي، ثم اعيد ترميمها بعناية كبيرة، فنجت من ويلات الحرب وبقيت على حالها، وخلال تلك الامسية دار نقاش حول دور الكنيسة في محاولة تنصير بعض الليبيين، فذكر احد العارفين بتاريخ المدينة ان حالة واحدة فقط سجلت طوال تاريخ درنة، حين جاء شاب واحد معروف بمشاغباته الى الكاهن معلنا رغبته في اعتناق المسيحية، فما كان من الكاهن الا ان رفض طلبه وطرده، مبررا ذلك بان دخول مسلم واحد الى النصرانية سيجر على الكنيسة عداوات مع المجتمع المحلي، وهو امر لم تسع الكنيسة اليه يوما.
وفي ليبيا لم تعد قرارات الهدم وممارسات التخريب مقتصرة على الكنائس ودور عبادة غير المسلمين، بل امتدت لتشمل اضرحة ومقامات لاولياء وشيوخ، ينتمي بعضهم الى التيار الصوفي وغيره، ممن ارتبطت بهم عقيدة شريحة من الليبيين المسلمين، وهو ما يعكس تناقضا صارخا في التعامل مع الموروث الديني والثقافي.
وحتى كثرة المساجد المنتشرة في ليبيا لم تشفع للكنائس في الحفاظ على هذا الثراء المعماري والحضاري، والمفارقة ان الليبي الذي يدعم بحماسة تحويل كنيسة الى مسجد، قد يثور غاضبا ويحتج باسم حقوق الانسان والحريات اذا اقدمت مدينة اوروبية على تحويل مسجد الى كنيسة، هكذا تبقى الكنائس في ليبيا رمزا لتاريخ متنوع، ومرآة تكشف الكثير من التناقضات في نظرتنا الى الاخر والى ذاكرتنا المشتركة.



