جويرية بنت الحارث: أم المؤمنين التي أعتقت مائة بيت بحكمة وعبادة
في أعماق التاريخ الإسلامي تبرز جويرية بنت الحارث كواحدة من أبرز الشخصيات النسائية التي ارتبطت بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. كانت ابنة الحارث بن أبي ضرار، سيد بني المصطلق، وزعيمة قومها. عند وقوعها أسيرة في غزوة بني المصطلق، تجلت حكمتها عندما اختارت الإسلام ورسول الله على اليهودية، لتصبح بذلك أم المؤمنين وتساهم في تغيير مصير قبيلتها بأكملها.
عندما جاء والدها الحارث ليطلب تحريرها قال للنبي: إن ابنتي لا تُسبى، فرد عليه النبي: “أرأيت إن خيرناها؟” فخيّرها النبي بين العودة مع والدها أو الإسلام، فاختارت الإسلام قائلة: اخترت الله ورسوله، مما أثار دهشة والدها الذي قال: قد فضحتنا. لم يطل الوقت حتى أعلن والدها إسلامه بعدما كشف له النبي ما أخفاه من إبل الفداء، وأدرك الحارث أن هذا لا يكون إلا بوحي من الله.
عرفت جويرية بكثرة عبادتها وذكرها لله، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم على تفانيها في العبادة حين قال لها يومًا بعد صلاة الصبح: “ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟” فأجابته بالإيجاب، فعلمها كلمات عظيمة الثواب: “سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته”. كانت هذه الكلمات تجسد روحها الزاهدة وحبها للعبادة.
قبل زواجها من النبي، كانت متزوجة من مسافع بن صفوان، الذي قُتل في غزوة بني المصطلق. عندما وقعت أسيرة في سهم ثابت بن قيس، كاتبها بمبلغ كبير ليفديها، لكنها لجأت إلى النبي لطلب المساعدة، فعرض عليها الزواج، وهو ما وافقت عليه بفرح. بزواجها من النبي، أطلق المسلمون سراح مائة أسير من بني المصطلق تقديرًا لمكانتها كزوجة للنبي، مما جعلها سببًا في بركة عظيمة على قومها.
كانت جويرية رمزًا للبركة والوفاء، وامتدت حياتها حتى عهد معاوية بن أبي سفيان، وتوفيت في عام 56 هجريًا، بعد أن تركت إرثًا خالدًا في قلوب المسلمين. روت بعضًا من أحاديث النبي، وكانت شاهدة على تحولات كبرى في تاريخ الإسلام، إذ أسهمت بحكمتها وإيمانها في تعزيز مكانة الإسلام بين قومها، لتظل ذكرى عظيمة في سجل أمهات المؤمنين.