الدكتور حسن أحمد يكتب:الكلمة مسؤولية
كتب: د. حسن أحمد حسن
غصت مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف الأخبار المتشابكة والمتناقضة منذ لحظة الإعلان الرسمي عن تعرض الطائرة التي تقلُّ الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي وعدداً من المسؤولين الإيرانيين لحادث هبوط اضطراري صعب، وعلى امتداد ساعات ما تزال حمى التسابق لتناقل أي خبر عن الأمر في تصاعد غير مسبوق، وما أن يتم تداول خبر حتى يسارع بعضهم لتبنيه وقصه وإعادة نشره، في حين يتفرغ آخرون لتفنيد المضمون، وهذا يشكل ظاهرة ــ من وجهة نظري الشخصية ــ أكثر من خطيرة، لأن النتيجة المباشرة تتجاوز تضليل الرأي العام، وتصل إلى توتير الرأي العام، وتعميم حالة من التشنج والخوف من المجهول على أقل تقدير، فالكلمة مسؤولية كبرى، الأمر الذي يتطلب المزيد من الحذر، والكثير من الإحساس بالمسؤولية الإعلامية والمجتمعية والأخلاقية بآن معاً، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة، ومنها:
• مئات المواقع على وسائل التواصل الاجتماعي، وعشرات المجموعات والصفحات الخاصة على منصات: /فيسبوك ـــ واتساب ــــ تلغرام ـــ تويتر ـــ X وغيرها/، وهذا يشمل المواقع الخاصة بالعديد من وسائل الإعلام والصحف والدوريات والقنوات الفضائية ومراكز الدراسات وغير ذلك، والقاسم المشترك: ضبابية الرؤية والصورة التي يتم تداولها، وتعميم أخبار سرعان ما يتم نقضها أو نفيها، أو تعديلها على أقل تقدير، ومن الطبيعي والمشروع أن يتساءل المتابع الموضوعي: لماذا؟
• من المهم قبل المتابعة التأكيد على نقطة أساسية، وهي أني لا أقصد شخصاً محدداً، ولا مجموعة ما ممن يتبادلون الرأي والنقاش عبر هذه المنصة أو تلك، بل الحديث عن أمر يشكل ظاهرة جديرة بالدراسة وتوضيح مدخلاتها المتشابكة، وقد أكون مخطئاَ، وغيري على صواب، فليس المقصود التقليل من شأن أية وجهة نظر تم عرضها والنقاش بمضامينها.
• الحديث في مثل هذا الموضوع ليس مجرد كلام يقال، ولا وجهة نظر يتم التعبير عنها، لأن الأمر يتعلق برئيس دولة إقليمية كبرى، فمن المستفيد من العزف على وتر “محاولة اغتيال” وبعضهم ذهب للجزم بأن أمريكا و”إسرائيل” بالتعاون مع أذربيجان التي كان يزورها الرئيس رئيسي وراء ذلك، وكأن الحديث عن اغتيال رئيس دولة كغيره من الكلام يتم تمريره على أنه يأتي في سياق التحليل المستند إلى وجهات نظر وقناعات شخصية.
• لوحظ الاستشهاد بما تنشره بعض الحسابات الشخصية لإسرائيليين معروف عنهم العمل على “كي الوعي المجتمعي” وخلق حالة من التشرذم والانقسام والتشكيك بأية سردية يتبناها أي طرف من أطراف محور المقاومة، وإلا كيف يمكن الاستشهاد بما ينشره أفيخاي أدرعي وقوله: (حذرنا من أن يد جيش الدفاع ستطال الرؤوس الكبيرة في محور الإرهاب الذي اعتدى على “إسرائيل” ويمول الحركات الإرهابية في المنطقة.. خوش أمديد) أو ديفد ياسين الذي كتب: (لتعلم إيران أنها عندما دعمت الحرب ضد “إسرائيل” كانت قد كتبت النهاية لنظامها الإرهابي وعملائه في المنطقة… لا أحد منهم في مأمن من القتل، ولا توجد قواعد اشتباك أو خطوط حرب.. كلما فعلت شيئاً سقط قادتها…) وكذلك ما كتبه إيدي كوهين وغيره ممن علقوا بكلمة (رحلوا) وبعضهم تساءل بخبث عن عدد الخواتم التي سيتم العثور عليها، وكثير غير ذلك.
• وصل الأمر ببعض التحليلات المكتوبة أن تستند على تنجيم قدمته إحدى قارئات الطالع منذ أشهر، وشددت فيه على سقوط طائرة تشغل العالم بكليته، ويموت كل من على متنها، أي أن قراءة الكف والتبصير وتقليب الفناجين دخلت سوق التحليل وتسويق وجهات النظر، فمن يخدم تعميم مثل هذه الصورة؟ … قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى بعض الجوانب المهمة، ومنها:
ــــ بيسر وسهولة يمكن لتل أبيب أن تتنصل من هكذا تصريحات، وتتذرع بأن هؤلاء يعبرون عن رأي شخصي لكل منهم، وبالتالي بعد أن يتم تحفيز جمهور المقاومة يتبين أنه لا يمكن البناء على الرواية التي تم تسويقها.
ـــ تعميم مثل هذه الصورة عن قدرة الكيان على الانتقام من أي كان حتى لو كان رئيس أكبر دول محور المقاومة يساعد في تعميم ما يسمى “الانتصار بالرعب” بعد العجز عن تحقيق منجزات ميدانية جوهرية يمكن البناء عليها؟ والسؤال: هل تعميم مثل هذه الصور يساهم بتشكيل حالة في العقل الباطن الجمعي لمتابعين مفادها أنه من الحماقة الوقوف في وجه واشنطن وتل أبيب؟
ـــ ألا يمكن الاستناد على الاستشهاد بهكذا سرديات مشبوهة أن للقول لاحقا: لقد ابتلعت إيران الصفعة، وهي لا تجرؤ على التفكير مجرد التفكير بالرد حتى وإن كان المستهدف رئيس الدولة ووزير الخارجية وغيرهم من المسؤولين؟
خلاصة:
من المهم التريث والتفكير بكل كلمة تقال أو تنشر، فالكلمة مسؤولية كبرى مهنية وأخلاقية، وبخاصة ممن لهم تأثير في تكوين الرأي العام وتوجيهه، والأمر الطبيعي أن يتم التريث إلى أن تنجلي الأمور تماماً
والآن بعد أن تم عرض اللقطات المباشرة لحطام الطائرة، وأكد الإعلام الإيراني الرسمي والجهات الحكومية ارتقاء السيد الرئيس إبراهيم رئيسي والوزير حسين أمير عبد اللهيان وبقية من كان على متن الطائرة تغمدهم الله بواسع رحمته جميعاً، وبعد أن اتضحت جوانب كثيرة من ملابسات ما حدث قد يكون من المهم إعادة التفكير في الاستمرار بتسويق سرديات تفتقر إلى الموضوعية، فأي حديث عن تورط مباشر لأي طرف كان يعني تهيئة البيئة المطلوبة لمسرح عمليات حرب لا تبقي ولا تذر، وهذا لا ينفي أن يكون ما جرى يتجاوز الظروف الجوية السيئة، لكن الجهة الوحيدة صاحبة الحق في قول كلمة الفصل هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليس هذا المحلل ولا ذاك المفكر أو الكاتب، فالأمر يحتاج إلى تدقيق وعدم تسرع، والتخلي عن إطلاق الإحكام المسبقة التي تفتقر إلى الكثير من أسس التفكير العلمي الموضوعي، وإذا كان من حق عشاق نظرية المؤامرة أن يطلقوا العنان لخيالهم الخصب، فمن حق من لا يركن لكل ما له علاقة بنظرية المؤامرة أن يبدي وجهة نظره، مع الاحترام للجميع ممن لهم وجهات نظر مختلفة.