” البِيدُ تَدْخُلُ في الوَريدِ” والشعر المصري المعاصر

كتب – حاتم عبدالهادي السيد
يمزج شاعرنا الرائع / السيد زكريا في ديوانه ” البيد تدخل في الوريد ” بين الشعر التفعيلي والعمودي؛ فهو يجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ عبر ترنيمة الناي الحزين ؛ فنراه يعوف أنشودة الصمت الحزين والخوف والوجل؛ وحيدًا على عتبات الكون والعالم؛ يقول : ( نَحْتُ الفَخَارِ عَلَى المزايفِ صَنعَةٌ/ دامتْ عَلَى سَطحِ الضميرِ طِلاهُ/ أوَّاهُ! كمْ شَهْباءَ تنزفُ عِرضَها/ وعلى الدِّمَاءِ نقولُ: يا اللهُ!/قد قيلَ إنَّ التُّربَ يلفِظُ كُلَّ حِينٍ قَيظَهُ / ويبثُّ عَبْرَ الرِّيحِ نَثْرَ شَقاهُ،/ والبحرَ يلفِظُ ما يُريبُ ترفُّعًا / ويزجُّ في بطنِ الكنوزِ صِبَاهُ. / صَلِّي لأجلِ رجالِ نخوة ِ أمْسِنا/ راحوا جميعًا للسَّرابِ وتاهوا /راحوا وقُمصانٌ يمزِّقُها الجَفا/ ومزارعُ الأسلاكِ والنُّكرانِ/ خطُّوا على وَهَني وداسِوا شِيعتي / واسْتدْبَروا لغةَ التَّرفعِ /وانبرَوا نهبًا لعرشِ بَكارتي /والطيرُ والزيتونُ رَهْنُ مآدبٍ / حَفْلُ الشِّواءِ و”مِنجَلٌ” و”تَوانٍ” /صلِّي كثيرًا لستُ آمُلُ في دَمِي/ واهْدِي لشهباءِ التوجعِ تاجَها /واستنزفي مِنِّي عَقيقَ كِياني) .
وشاعرنا السامق الكبير / السيد زكريا نراه يستنهض الشعوب؛ ويدعو الجميع للتحرر من الكلام والشعارات والنوح بالشعر والقصائد والخطب؛ فلا الصراخ يجدي أمام الخذلان؛ بل يستنهض الهمم للثورة ومجابهة الإحتلال والطغاة؛ وايقاظ المارد العربي النائم منذ عقود؛ يقول : ( دمعُ القصيدةِ لا يحُلُّ قَضِيَّة ً/لا والصُّراخُ ومَجْمَعُ التنهيدِ/ والزفرة ُالحُبلى بِجَمْرِ خُضُوعِها/والسِّجْنُ إذ يُرضى/بديلَ شَهادةٍ /فيحيلُ حُبَّ الثأرِ للتنديدِ/لا تمنعي الماعونَ /والدمعَ/ الصلاةْ/واروي جبينَ عُروبتي صَحوًا /أعيدي الصُّبحَ طيَّ وريدي).
وشاعرنا يستصرخ الهمم العربية؛ والضمير الإنساني أمام قضايانا العربية والإسلامية؛ في فلسطين وسوريا والعراق؛ وفي كل المنافي في أرجاء الوطن الممتد من المحيط إلي الخليج؛ وهو شاعر عروبي يعيد لنا روح الوحدة العربية؛ والقومية العربية؛ والعودة لمجابهة المحتل الصهيو- أمريكي الاوروبي من جديد؛ كما نراه ينعي ذاته العاجزة عن الحرب والدفاع عن قضايانا الكبرى سوي بالشعر والكلمات والهممات والصراخ عبر القصيدة؛ وفي فضاءات الصمت العربي الزاعق عبر برّية السكون والصمت والعتمة؛ يقول :
فُكِّي الحِصارَ أُخيَّتي / لكرامةٍ سُجنتْ / وهُبِّي إذ ولجتِ مَقامَها/ سَجَّانُها صَلْدٌ فعُفِّي.. /لا مُؤَذِّنَ يحتوي هذا الفراغْ../ بَغْدَادُ، سُورْيا، قُدْسُنا،/تلُّ الجراحِ وغيرُهُنَّ/ وها.. أنا / أقضي على الوجعِ المُراقِ/ببعض ِأبياتٍ../ ومَصْمَصْةِ الشفاهِ وحَوْقَلَةْ! /هلْ كانَ عُقْمُكِ يَسْتَحِقُّ الزلزلةْ؟/ تِلكَ الصُّكوكُ تحيطُنَا /والعارُ سِلْسَالٌ../وصَمْتي مَهْزَلَةْ) .
ولا يكتف الشاعر بالحديث عن قضايانا القومية الكبرى ؛ بل يعرج بنا جانبُا؛ ويأحذنا إلى عجزنا وعوزنا لرغيف الخبز، وحياة الرفاه؛ ولكن الشعوب استمرأت الذل والحنوع على الثورة؛ وغدا الحوف والرهبوت والصمت هو الشعار الأسود لتلك الشعوب الكسيحة بفعل فاعل؛ يقول : ( سَيْفٌ يَذُودُ / ومَنْ يَذُودُ الآنَ غَيرُ حُرُوفِنَا/ طابُورُ عَجْزٍ سَاكِنٍ/ يُزْجِي مَرارًا في حُلوقِ الأرْغِفَةْ / وقَفَ الرِّجالُ /مُطاوعينَ / بلا صِفَةْ!/ ضَجَّ النِّسَاءُ ببئرِ مَدْيَنَ في قلُوبٍ واجِفةْ /الآنَ نَسْقى مِنْ عَكَارِ الأرْصِفَةْ ).
ويستدعي الشاعر من جديد التناص الرؤيوي الإحالي لقصة سيدنا يوسف عليه السلام؛ والسنوات العجاف ؛ وما كان في مصر؛ وكأن ما كان بالأمس ، يحدث الآن؛ ولا عزاء للأزمنة والأماكن؛ وكأن الحال هو الحال؛ فهو يبكي الظلم للشعوب؛وعدم وجود عدالة اجتماعية ؛ حيث الطبقية والفقر؛ ومعاناة الفلاحين في الزراعة للقمح والشعير والأرز؛ ومعاناة الجوع والعوز؛ فنراه يصرخ بقوة ويستحث ضمير الحكام ودعاة قضايا حقوق الإنسان في العالم لينظروا للفلاح الفصيح؛ الفلاح المصري الذي ذاق الكثيرًا من الظلم عبر العصور منذ عصر الفراعين الأوالي، وحتى الفراعين الجدد؛ يقول في شموح وعزة؛ عبر طرح لكثير من قضايانا المحلية والقومية والعربية؛ يقول : ( سَبْعٌ عِجَافٌ يَقْتَحِمْنَ رِوَايَتي/ لا عامَ نَعْصِرُ فِيهِ، / لا غَوْثٌ، /ولا في البيتِ آمالٌ سِمَانْ/ قمْحِي شَرَوْه ُدَرَاهِمًا مَعْدُودَةً /بخْسَ الثمنْ/ أُرْزُ الغَلابةِ خَلْفَ قُضْبانِ الجفافِ مُكَبــَّلٌ /نفطي المُهرَّبُ باكيًا/ يجثو أمامَ زئيرِ “بيتٍ أبيضٍ”/ حطَّ السَّوادُ بقلبه ِ/ اختلقَ المشَاكِلَ والحلولَ / على دَمِي/ ورجالُنا قَيْدُ البُّكاءِ ترجَّلوا/بينَ العواصمِ صامتينْ/ وأنا وأنتِ نُضَاحِكَ العُشَّاقَ / في “دربِ الرَّشِيدْ” ).
ولعل شاعرنا يحيد التنقل من موضوع إلى موضوع – عبر الإزاحة- وتقنية الإلتفات، فينتقل من الحديث عن الهموم والأحزان إلي الحبيبة وكورنيش الحزن فوق النيل؛ كما يستدعي جسر العشاق في العراق ” جسر الرشيد “؛ بل ويرسم صورة جنائزية لخارطة العالم العربي الذي ذاق المرار؛ وغدت قبور الشهداء تملأ الأرصفة، ولا عزاء سوي للصمت والبؤس المميت؛ يقول : ( “كورنيشُ نيلِ” الصَّبْرِ / يَشْهَدُ طبْطَبَاتِكِ فَوْقَ جُرْحٍ غَائِرٍ/ ضَمَّتْ جَوارِحَهُ “الرِّباطْ”/ وقفتْ عَلَى مَرْمَى العَزَاءِ لحُودُنا/ ومِنَ المحيطِ إلى الخليج ِ/ تصُفُّ أَصْوِنَةَ التَأَلمِّ والرَّجَاءْ/ كمْ مأتمٍ في الرُّوحِ / َحْيَكِرُ الضِّيَاءَ /فأفرخي.. /ليتَ النجيبَ /مِنَ المَخَاضِ، حُسَامُهُ/ في البَدءِ يُدرِكُ ما الرثاءْ).
إن شاعرنا هنا حزين؛ تائه في أقبية العالم؛ يجول عبر مرافيء الصمت والحنين والحزن والعذاب؛ يبكي الخارطة العربية التي تشوهت بعد أن كانت صولاتها تملأ البصر والسمع والحضارات؛ ثم نراه يقف وحيدًا يبكي أطلال العروبة التي ذبحت على مقصلة الخوف وكراسي الحكام والطغاة؛ والمنافقين يقول: ( وعَلَى الخريطةِ هائمًا../ها قدْ جَلَسْتُ ألمُّ فَرْطَ المِسْبَحَةْ../وأَخِيِطُ بَوْلَ شَتَاتِنَا. /خَيْطُ العُروبَةِ ذَابِلٌ../والغَرْبُ ذَا مَا أفرحَهْ./دودُ الخِلافِ عَلَى القَطِيعَةِ قَدْ نمى../وتنازع َالأقزامُ دَوْرَ مُسَيْلَمَةْ./وإلى السَّمَا.. /هامانُ يَضْرِبُ سُلَّمًا.. /ما أقبَحَهْ./قارونُ يُغْدِقُ مالَنا../ لينالَ صَكَّ الأسْلِحَةْ).
وفي رائعته “حَتَّى المَوْتِ” نرى فلسفة الشاعر العميقة؛ حيث يستقطر الحزن والمرار ويسكبه على الذات والعالم ليعيد رتق الجروح التي لم تندمل بعد؛ وكأنه نشيد الحزن يكتبه لربما نفيق من غفواتنا؛ ونومنا الذي طال لعقود ممتدة ؛ أو لربما نستقطر بعض قوة؛ أو نستنهض همة بعد أن ضاعت المروءة والشهامة العربية علي عتبات العالم؛ في ظل غياب البطل / الفارس ،الذي سيجيء – يومًا – علي جواد القوة والشهامة العربية ليعيد المجد العربي القديم ؛ لربما ؟! . وهو هنا يستنطق الذات والعالم؛ ويخاطب الإله و الذات والعالم والنبي؛ والأحجار والكون للخلاص من الصمت والعار والجبن والخوف؛ يقول : ( يا صَاحِبَ التَّفْويضِ.. /نِلْتَ شَفَاعَتِي./قَلْبي يُفَتِّحُ نَبْضَهُ، /كِلْتَا يَدَيْه./مَا كَانَ مِنْكَ فَلُذْ بِهِ.. /مَا كَانَ مِنْهُ فَلا عَلَيْكَ، / ودَعْهُ مُنْقَلِبًا إليه./هَذَا المُفَوِّضُ لَمْ يَجِدْ.. /ــ في البِدْءِ ــ مَنْ يَحْنُو عَلَيه./فَلِذَاكَ فَوَّضَ واسْتَكَانَ../دَعَوْهُ../حتَّى الموتِ../قرَّبَ ما لديه./أَلْهَتْكَ أَرْغِفَةُ التَّكَاثُرِ / ــ نَمْ يَا بُنَيَّ.. ..ــ النَّوْم ُفي زمَنِ البَلادةِ.. مِثْلهُ مِثْلُ العِبَادَةْ! /النَّوْمُ عِنْدِي يا صَغِيرُ الآنَ عَادَةْ؛ /النَّوْمُ يَمْنَحُنِي السِّيَادَةَ! /كَمْ أَنَا في النَّوْمِ أَحْيَا.. / حِينَ أَصْحُو.. / يَعْتَرينِي المَّوْتُ.. / أُصْبِحُ مُسْتَعِدًا لِلْقُوَادَةِ. /ـ لَنْ أَنَامَ ولَنْ أَغِيبَ، /ولَنْ أُخَلِّي مِنْ دَمِي أُنْثَى يُضَاجِعُها الغَريبُ.. / ولَنْ تَبِيتَ الشَّمْسُ إِلَّا هَا هُنَا.. / وَسَأَذْبَح ُاللَّيلَ الكَئِيبَ. / ــ احلَمْ مَعي. /ــ احلمْ لوَحْدِكَ.. /لَسْتُ مُضطَّرًا لأَشْحَذَ هَامَةً.. /ضَلَّتْ إِلَى الدَّرَكِ الرَّهِيبِ. /ولا أعيشُ بغير حُلمٍ إنَّما../حُلم ٌ بِيَقْظةِ فارسٍ،/ صُبْحٌ مَهيبْ) .
إنه الشاعر الحالم بغدٍ جديدٍ مشرق؛ وهو لا يملُّ من المقاومة؛ ولا يفقد الأمل في مجئ الفارس العربي الذي يعيد للأمة هيبتها وحضارتها؛ ومجدها التليد الشامخ .
وفي النهاية : إن الشاعر/ السيد زكريا يجنح لاستخدام تقنيات الشعرية ، وتقصيد اللغة المتناغمة التى تسير كنهر يتهادى على ضوء ناى فى ليلة مقمرة ، حيث تتداعى صوره وتنساب كعسجد مخلوط بلجين آثير ، يسحر الروح ، ويسكر العقل فى سيمفونية من جمال السرد والشعرية ، فيحيلنا الى عالم ذات صادحة ، تشكو الألم والوحدة ، وتزعق فى بريّة الفراغ ، لتجابه الصمت وحيدة ؛على أمل عودة المحبوب/ الوطن / المارد العربي الأخير .
لقد نجح الشاعر فى ايراد الصور المتراتبة التى تنمّ عن جمالية واحكام ، لصياغة الشّعرية ، إذ يقبض على المفردات كعارف وخبير بمخصوصيات اللغة ومجازيتها وتدفقها عبر علم الدلالة، وعبر الصورة والظل ، والمعنى المشتبك ، ليحيلنا الى محايثات يتقاطع فيها مع ذواتنا؛ ونحن نثمن هذا الديوان الذي استطاع أن يقبض جمر الشعر ووهجها وبريقها ؛ ويعيد للحياة رونقها؛ فهو يحارب بالكلمات؛ وينتظر مجيئ شمس الحرية من جديد .
حاتم عبدالهادي السيد
Abdelhady.hatem@yahoo.com
01005762702/ مصر



