كتابنا

عبدالحليم قنديل يكتب.. إسرائيل وحرب إيران

ربما لا يكون جديدا ولا مفاجئا ، أن كانت إيران وبرنامجها النووى موضوعا لمؤتمر “هرتزيليا” الأمنى الإسرائيلى الأخير ، وقد تأسس المؤتمر السنوى عام 2000 ، وكانت إيران عنوانا لدورتين سابقتين عامى 2007 و2019 ، لكن الفارق هذه المرة ، ليس فى علو النبرة ولا فى فوائض التهديد بحرب ضد طهران ، بل ربما فى الاتفاق الضمنى المرئى مع واشنطن ، التى يزور وزير دفاعها “لويد أوستن” كيان الاحتلال لمدة يومين ، سبقتها لقاءات مكثفة من النوع ذاته ، كان أهمها زيارات الجنرال “مارك ميلى” قائد أركان الجيوش الأمريكية ، ثم المناورة الحربية الكبرى لكيان الاحتلال أواسط العام الفائت ، التى نظر إليها كبروفة نهائية لعملية ضرب إيران ، فى الوقت الذى توارت فيه جولات المفاوضات لتجديد ما يعرف بالاتفاق النووى الإيرانى ، فيما أحرز البرنامج النووى لطهران خطوات تطوير كبرى ، جعلت إيران على عتبة صناعة قنبلتها الذرية .

وقد لا يكون مهما هنا تقييم النظام الإيرانى ، ونزعته التوسعية الملموسة الممتدة فى الفراغ العربى المحيط ، فلا أحد فى عالم الأقوياء ، يهتم بمصير الضعفاء والغائبين والضحايا ، وقد ظل العرب لعقود هم الضحايا المفضلون لإسرائيل وإيران معا ، ومن وجهة النظر الإسرائيلية ، وكما قال “يؤاف جالانت” وزير الحرب الإسرائيلى ، فإن إيران تخوض حرب استنزاف ضد إسرائيل ، وأحاطتها بالمخاطر من الشمال فى لبنان ، ومن الجنوب فى غزة ، إضافة لنشاط دءوب مدعوم إيرانيا فى قلب فلسطين المحتلة ذاتها ، والوجود الإيرانى النشط المتزايد فى سوريا ، وقد حاول كيان الاحتلال مواجهة التطويق الإيرانى ، ومن دون جدوى مؤكدة ، وكانت حربه القصيرة الأخيرة ضد حركة “الجهاد الإسلامى” القريبة من إيران فى غزة ، وبرغم اغتياله لعدد من القادة العسكريين البارزين لحركة “الجهاد” ، واتصال القمع والقتل اليومى لنشطاء المقاومة المنظمة والعفوية فى الضفة الغربية ، واقتحامات حكومة أرباب السوابق وقطعان المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك فى القدس المحتلة ، برغم كل هذه الوحشية “الإسرائيلية” ، فإن كيان الاحتلال لا يشعر بالأمن ، ولا بالثقة فى دعوى استعادته لزمام المبادرة والردع ، ويصور قادته لأنفسهم ولجمهورهم ، أن الخطر ليس من الشعب الفلسطينى ومقاومته الذاتية الباسلة ، بل فى إيران ، التى تدعم حركات المقاومة “الإسلامية” ، وفى حزام الصواريخ إيرانية المنشأ والطرز ، التى تحاصر كيان الاحتلال ، وبالذات من الشمال حيث يحوز “حزب الله” ترسانة صواريخ يبلغ عددها 150 ألفا ، هى بالطبع أطول مدى وأكثر دقة من صواريخ غزة ، وبرغم مناوشات محدودة جرت على مدى الأعوام الأخيرة ، فإن كيان الاحتلال لم يجرب خوض حرب واسعة مع “حزب الله” ، وكان آخر صدام شامل جرى فى حرب يوليو 2006 ، وقبل أيام ، أجرى “حزب الله” مناورة تدريبية ملفتة على اقتحام مستوطنات وخطف جنود ، ربما فى إشارة لاستعداد “حزب الله” للدخول فى حرب مع الكيان ، يجد نفسه ملزما بها “شرعا” ، بالنظر إلى تبعيته الدنيوية والدينية المطلقة لأوامر الولى الفقيه الإيرانى “على خامنئى” ، وهو ما قد يعنى بالحتم والضرورة ، أن هجوما شاملا من الكيان ضد إيران ، سوف يلقى ردا شاملا على الجانب الآخر ، ليس من طهران وحدها ، بل من الجبهات الإيرانية فى المشرق العربى كله ، من العراق حتى حافة البحر المتوسط ، وربما من حركة “حماس” فى غزة أيضا ، وقد سارعت بإدانة تهديدات قادة الكيان الأخيرة لطهران ، وبرغم إفراط قادة الكيان فى إبداء الثقة العسكرية ، وإشاراتهم الظاهرة لحيازتهم قنابل اختراق قادرة على تدمير منشأت تحت الأرض ، من نوع المنشأة المحصنة بالقرب من “نطنز” الإيرانية ، التى تبارت المخابرات الأمريكية والموساد الإسرائيلى فى الإعلان عن وجودها ، إلا أن كل هذه القدرات المفترضة لدى الكيان ، أو لدى واشنطن التى تدعم الهجوم الإسرائيلى ، وإن احتفظت بمسافة صورية علنا ، تردد فيها عبارات مجوفة ، من نوع أنها تعول لا تزال على العمل الدبلوماسى ، وإن كانت متفقة مع الكيان فى منع إيران من حيازة سلاح نووى ، مع إعلان طهران نجاحها فى تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% ، واقترابها من حاجز نسبة 90% اللازمة لصناعة القنابل الذرية ، وهو ما لا يبدو مستبعدا ، بالر غم من إعلانات إيران المتكررة أنها لا تنوى صناعة القنابل ، وأن لديها فتوى دينية تحرم حيازة السلاح النووى ، وتلك فتوى لم يطلع عليها أحد ، ثم أنه لا مانع عند طهران من إلغائها عند الضرورات التى تبيح المحظورات ، وقد فعلتها إيران “الخمينية” فى فتاوى سبقت وألغتها ، وربما لا تكون من قيمة استراتيجية كبرى لبرنامج إيران النووى ، إن لم يصل لحد إنتاج أسلحة نووية ، تملك إيران بالفعل وسائل إيصالها لأهدافها ، وبنية صواريخ باليستية متطاولة المدى بإطراد ، فالأسلحة النووية تبدو كبوليصة تأمين للوجود الإيرانى متسع الجغرافيا متنوع الأعراق ، وما من ضمان لواشنطن ولا للكيان فى إجهاض البرنامج النووى الإيرانى ، وما من أثر حاسم لتدمير المنشآت النووية ، فالمنشآت تمكن إعادة بنائها ، كما سلاسل أجهزة الطرد المركزى بكافة أجيالها ، بعد ما توافر لإيران من معارف نووية متقدمة ، وجيوش من العلماء والمهندسين النوويين ، وقد جرب كيان الاحتلال غارات “الحروب بين الحروب” ، ونجح مرات فى اختراق جدار الأمن الإيرانى ، وفى قتل علماء ، وتجنيد جواسيس ، وقصف منشآت تصنيع عسكرى ، وكل ذلك تم فى صلات عمل وثيقة مع واشنطن وأجهزة مخابراتها ، لكنه لم يؤد فى النهاية إلى شئ ذى مغزى ، ولا إلى شل قدرة إيران على التصنيع العسكرى والنووى ، ثم أنه لا ضمان فى أن تشن “إسرائيل” حربا شاملة ثم تفلت ، فقد أدارت حروبا ستة ضد “غزة” الصغيرة ، ولم تستطع أبدا نزع سلاح المقاومة ، ولا صواريخها المصنوعة ذاتيا ، فما بالك بحرب انتقام طويلة مع إيران وجماعاتها ؟، تبدو كأنها أم الحروب ، الواصلة بصواريخها إلى عمق كيان الاحتلال ومنشآته حتى النووية ، والمثيرة لفزع ودمار غير مسبوق فى الداخل الإسرائيلى ، وربما تنهى أسطورة تفوق جيش الاحتلال ، وتذكى نار التمرد والمقاومة الفلسطينية.
وفى حسابات الحرب التى تدحرجت مواعيدها لسنوات ، وتقول “إسرائيل” هذه المرة ، أنها تنتظر وصول إيران لنسبة 90% من عملية تخصيب اليورانيوم ، وعندها سوف تكون ساعة الصفر ، وتدعمها واشنطن بحماس أكبر هذه الأوقات ، ربما لضيقها من توثيق العلاقات العسكرية الروسية الإيرانية ، وما قالته أجهزتها عن تقديم إيران لآلاف من المسيرات لموسكو فى حرب أوكرانيا ، وزحف الصين المتزايد ثقله فى المنطقة ، ونجاح بكين فى عقد اتفاق تطبيع بين طهران والرياض ، وسريان روح تفاهم وتقارب عربى مع إيران ، بعد إعادة سوريا رسميا لمقعدها فى الجامعة العربية ، وما يجرى تداوله من أخبار عن اتصالات سرية بين طهران والقاهرة ، وكل ذلك وغيره ، يقوض الفكرة الأمريكية القديمة عن إقامة تحالف إسرائيلى عربى ضد طهران ، وقد سعى الرئيس الأمريكى السابق “ترامب” لإقامته ، وحاول بعده الرئيس الأمريكى الحالى “بايدن” ، وتعثر المشروع إلى أن مات تقريبا ، ولم تعد من دولة عربية ذات شأن ، حتى تلك التى تقيم علاقات تطبيع مع كيان الاحتلال ، لم يعد منها طرف متحمس لمشاركة كيان الاحتلال فى حرب محتملة ضد طهران ، خاصة أن واشنطن تحرص على إخفاء وجهها فى العملية كلها ، وتخشى المبالغة فى الضغط على أصدقائها وتابعيها العرب ، خشية أن تخاطر بفقدهم فى المباراة العالمية الدائرة مع الصين وروسيا ، وكل ذلك لا يوفر لكيان الاحتلال بيئة مثالية لشن حربه ، ولا لجلب التعاطف مع هدفه ، ولا لاستقطاب السنة العرب ضد المعسكر الشيعى الإيرانى ، خصوصا مع ارتفاع منسوب التعاطف والتأييد الشعبى لعمليات المقاومة الفلسطينية ، وتصاعد الغضب من عدوانية الكيان ، واقتحاماته المتكررة للمقدسات الإسلامية ، وتهويده المتصل للقدس والضفة الغربية ، ووحشيته الهمجية اليومية مع الشعب الفلسطينى وطلائعه المقاومة ، وهو ما قد يوفر بيئة شعبية عكسية متعاطفة مع إيران وجماعاتها العربية ، تدعو بالنصر لإيران على الكيان ، فقد اختلطت وتبدلت الأوراق والصور ، وبدا كما لو أن القضية الإيرانية صارت عربية ، بسبب إحلال الأدوارالقيادية الذى تواتر فى العقود الأربعة الأخيرة ، وانفراد إيران بدعم المقاومة المسلحة ، بينما انتهت غالب الدول العربية رسميا إلى مقاعد المتفرجين على مآسى فلسطين ، بل تورط بعضهم بالتحالف مع الكيان من طرف خفى ، وهو ما ينكرونه فى العلن ، وإن خفتت نبرة تحريضهم على إيران ، وتراجعت دعواهم فى خلط “دقيق” العرب مع “زيت” إسرائيل ، وهو ما يضيف مددا لخطورة المأزق الإيرانى عند قادة الكيان الغاصب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى