كتابنا

 د. محمد السعيد إدريس يكتب :  الغرب ومشروعه الحضارى

د. محمد السعيد إدريس يكتب :  الغرب ومشروعه الحضارى

 

يوماً بعد يوم يزداد العالم يقيناً بأن الولايات المتحدة ومجمل دول تحالف الأطلسي ليسوا مستعدين للقبول بإدارة العالم إدارة ديمقراطية تعتمد التعددية والاعتماد المتبادل كأساس للعلاقات الدولية، فهم على إصرارهم وتمسكهم بتفردهم في السيطرة على العالم. كانوا كذلك فى مرحلة ما قبل نجاح الاتحاد السوفيتى عقب نهاية الحرب العالمية الثانية فى فرض نفسه كقوة عالمية موازنة للولايات المتحدة، وكانوا كذلك عقب تفكك الاتحاد السوفيتى وسقوط نظام الثنائية القطبية، وهم الآن أضحوا أكثر تمسكاً ليس فقط بالإصرار على أحاديتهم وتفردهم في السيطرة على العالم بالمفهوم الاستراتيجى العسكرى والسياسى والاقتصادى ولكن أيضاً بالإصرار على فرض منظوماتهم القيمية الفاسدة على العالم متجاهلين الخصوصيات التى تتمتع بها الحضارات الأخرى. ولم يكن إطلاق دعوة “صراع الحضارات” إلا ازدراء لطموح أمم الحضارات الأخرى فى أن يسود الاحترام المتبادل بين الحضارات فى العالم عبر اتباع منهاجية “الحوار” بدلاً من الصراع بين هذه الحضارات.

من أبرز المؤشرات التى تؤكد ذلك، يمكن تحديد أربعة منها؛ أولها دخول الولايات المتحدة كطرف مباشر في الحرب الأوكرانية التى تحولت ، أو تكاد تتحول إلى “حرب أمريكية – روسية”، منذ الزيارة المخططة التى قام بها الرئيس الأمريكى جو بايدن للعاصمة الأوركانية كييف، والقمة التى عقدها في اليوم التالي مع زعماء دول الجناح الشرقي للحلف شمال الأطلسي (الأكثر تطرفاً ضد روسيا) في بولندا. ففي أوكرانيا أكد الرئيس بايدن (20/2/2023) أن “أوكرانيا لن تكون انتصاراً لروسيا أبداً”. وفي ختام زيارته لبولندا (22/2/2023) أكد أن بلاده “ستدافع عن كل بوصة” من أراضى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في حال تعرضها لأى عدوان من روسيا. وقبل ذلك بأيام وضمن فعاليات “مؤتمر ميونيخ للأمن” جدد القادة الغربيون المشاركون في ذلك المؤتمر (17/2/2023) التزامهم مواصلة دعم أوكرانيا عسكرياً، لكن نائبة الرئيس الأمريكى كامالا هاريس التي شاركت فى هذا المؤتمر وسعت من دائرة “العداوة” التى تخوضها بلادها ضد روسيا لتضم الصين عندما حذرت من على منصة مؤتمر ميونيخ من أن “السماح لرئيس روسيا بوتين بالانتصار فى حربه فى أوكرانيا سوف تكون له تداعياته، وسوف يشجع غيره من النظم السلطوية أن تحذو حذوه”، وتقصد الصين. وبعدها حذر انتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكية، فى ذات المؤتمر، الصين من مغبة تقديم “دعم مادى” لروسيا فى أوكرانيا. مجمل هذه الممارسات تؤكد أن الولايات المتحدة والغرب مصرون على خوض ما يعرف بـ “الحرب الصفرية” التى تعنى إصرارهم على منع روسيا من تحقيق أدنى قدر من المكاسب من حربها فى أوكرانيا، وإجبارها على الانسحاب دون شروط بكل ما يتضمنه ذلك من مخاطر على الاستقرار السياسى داخل روسيا .

ثانى هذه المؤشرات تلك المواقف الغربية الرديئة والتمييزية إزاء كارثة الزلزال الذى وقع فى تركيا وسوريا، وهى المواقف التى وصفها الكاتب البريطاني ديفيد هيرست على موقع “ميدل إيست أى” البريطانى بأنها ” بلا قلب”، معتبراً أن الغرب “أضاع فرصة كانت سانحة أمامه لإظهار القيادة الأخلاقية والإنسانية أمام ملايين الناس”. واستنكر هيرست تقديم الغرب مساعدات باهظة لأوكرانيا فى حين تقاعس في مساعدة تركيا وسوريا. ضمن هذا الاستنكار انتقد هيرست عن ما نشرته مجلة “شارلي إبدو” الفرنسية الساخرة ، بعد يوم واحد من وقوع كارثة الزلزال، حيث نشرت رسماً كاريكاتيراً يظهر مبنى مدمراً وسيارة مدمرة وكومة من الأنقاض مع التعليق بـ “لا داعى لإرسال دبابات”. تعليق لا يخلو من شماتة بذيئة اعتبره هيرست شديد العنصرية من مجلة اعتبرها الغرب عام 2015 مركزاً للدفاع عن الديمقراطية وحرية التعبير.

أما المؤشر الثالث فهو الصمت الغربى المخزى تجاه الممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد الشعب الفلسطينى خاصة في نابلس وجنين، صمت يعرى حقيقة ما تعنيه الديمقراطية والحرية الغربية من تمييز عنصرى وسقوط أخلاقى وإنسانى.

هذا السقوط الأخلاقي والإنساني يتكشف أكثر مما يتكشف في المؤشر الرابع الذى يتمثل في السعى الغربى الدءووب لفرض منظوماته القيمية والأخلاقية الساقطة على مجتمعات العالم الأخرى دون أى اعتبار أو احترام لقيمها وأخلاقياتها ودياناتها. أكثر ما يتجلى هذا السقوط فى الإصرار الغربى على اختراق الأمن الفكرى والثقافى لمجتمعات العالم الثالث، من خلال نشر أفكار ودعم معتقدات تزعزع الهوية الوطنية والقيم الأخلاقية ، من بينها الترويج للشذوذ الجنسي واعتباره “نموذجاً حداثياً” ودعم الأقليات العرقية والدينية لتفتيت الوحدة الوطنية للدول.

الانفلات الأخلاقي في المجتمعات الغربية وصل إلى ذروته بتقنينه ، أى بجعله قانونياً من خلال السماح بزواج الشواذ “المثليين”، وبات المواطن الوروبى والأمريكى مأموناً قضائياً في “خياراته الجنسية” الأمر الذى حفز بعض أباء الكنيسة لرفع أصواتهم عالية نظراً لانتشار هذه المفاهيم في المدارس دون اعتبار لمفهوم “الأسرة” وبنيانها، لدرجة أن بعض القوانين الأوروبية سمحت ببيع “الحيوان المنوى” أو “استئجار رحم” لتكوين عائلة من رجلين شاذين أو امرأتين شاذتين. وكانت رئيسة أكبر مؤسسة إعلامية خاصة بالأطفال وهى “ديزني” أعلنت أن “نشر المثلية” هى جزء من مشروعها المستقبلى”، كما أكدت أن المثلية “ستكون ضمن 50% من إنتاجاتها المقبلة. وقالت رئيسة ديزنى “كايثى بيرك” أنه “من الآن فصاعدا ، سنزيد من المحتوى المتعلق بالمثليين ومزدوجى الميل الجنسى، والمتحولين جنسياً، واللا جنسيين”.

مكمن الخطر أن الغرب، ومن منطلق فوقيته واستعلائه على الشرق بحضاراته يسعى لفرض ما يؤمنون به باعتباره “النموذج الحداثى” والذى يسعون من خلاله إلى اختراق المجتمعات الشرقية أو مجمل مجتمعات دول العالم الثالث، الأمر الذى اخذ يستنفر هذه الدول ويفجر ردود فعل غاضبة وحمائية رافضة لهذا السقوط الأخلاقى، وهناك من بات يعتبر أن التصدى لهذا السقوط إعلاناً للتحدى الأكبر للمشروع الغربى ولنا في خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الفيدرالية الوطنية (21/2/2023) بمناسبة مرور عام على الحرب في أوكرانيا مؤشراً مهماً لجدية هذا التحدى. فبقدر ما كان هذا الخطاب إعلاناً للتحدى الاستراتيجى الروسى للغرب بقدر ما كان أيضاً إعلاناً للتحدى القيمى والأخلاقى، ورفض التدخل القيمى من جانب الغرب في الشئون الداخلية للدول بحجة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد أكد بوتين في خطابه أن “العائلة هى اتحاد رجل وامرأة وأن هذا ما تقوله الديانات السماوية” مشيراً إلى أن “كل المشكلات الثقافية هى مشكلة الغرب، أما نحن فنسعى للحفاظ على أطفالنا” وأن الغرب “يحاول فرض أجندته الثقافية على الكنيسة وفرض المثلية عليها” مشيراً إلى أن “الكنيسة الإنجليزية تبحث الآن عن (صيغة محايدة) للفظ الجلالة”.

قبل هذا الخطاب بأشهر معدودة قدم البرلمان الروسي مشروع قانون لحظر أى محتوى في وسائل الإعلام أو أى صور في الأماكن العامة تحتوى على الشذوذ الجنسي، “مخافة أن تتأثر الفطرة السليمة لدى الأطفال الروس”. وقبله كانت الصين قد أعلنت العزم على إضافة مادة عن “الرجولة” في المناهج الدراسية، لحماية النشأ من الغزو الثقافى الغربى.

هذه المواقف تكشف عن اتجاه عالمى جديد لتحدى الغرب والتمرد عليه حفاظاً على الخصوصيات الثقافية والحضارية، وتحدياً للتسلطية والانفرادية الغربية الساعية للسيطرة على العالم .

 د. محمد السعيد إدريس يكتب :  الغرب ومشروعه الحضارى
د. محمد السعيد إدريس يكتب :  الغرب ومشروعه الحضارى

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى