تاريخ ومزارات

من الأدب الفرعوني| سنفرو.. صاحب أول تجربة ديمقراطية في التاريخ

عثر العالم الأثري “جولتيشف” على بردية محفوظة بمتحف ليننجراد، تحتوى على تنبؤات كاهن مرتل اسمه (نفر – روهو) بحسب سليم حسن في كتابه “الأدب المصري القديم” لافتا إلى أن الكاهن ادعى أنها تليت في حضرة الملك سنفرو ، أول ملوك الأسرة الرابعة (2575-2456 ق.م) والمعروف بهرمه المنحني بدهشور، حيث تعدد البردية(الوثيقة) مناقب الملك سنفرو.
وينوه حسن إلى أن الصدفة وحدها هي التي حافظت على هذه الوثيقة، حين عثر عليها أحد كتاب الدولة الحديثة ( 1550 ق.م ) وأدرك مدى أهميتها ، حتى أنه حين لم يجد بردية فارغة لتدوين الوثيقة استخدم بردية مستعملة سجل على ظهرها نبوءات (نفر – روهو).

في بلاط الملك

وبحسب حسن، تبدأ الوثيقة بتصوير مشهد معتاد في التاريخ المصري ، حيث يجلس الملك مع حاشيته ، يشاورهم في أمور الحكم أو يستمع منهم أخبار البلاد والعباد، وأحيانا كانت تتوق نفس الملك للاستماع إلى القصص الغريبة أو أمور الغيب .
وفي هذا السياق تقول الوثيقة “والآن أتفق في عهد جلالته الملك (سنفرو ) وهو الملك المحسن في كل هذه الأرض ، أن موظفي الحاضرة دخلوا يوما القصر ليقدموا للملك تحياتهم ، ثم جاءوا ليقدموا تحياتهم مرة أخرى كما كانت عادتهم اليومية”.
وتضيف الوثيقة “وقال لهم جلالته : يا إخواني لقد أمرت بطلبكم لتبحثوا لي عن ابن من أبنائكم يجيد الفهم أو أخ من إخوانكم بارع ، أو صديق من أصدقائكم قد أنجز بعض عمل شريف ، أي فرد يتحدث إلى بكلمات جميلة وألفاظ مختارة عندما تسمعها جلالتي تجد فيها تسلية.. وقالوا في حضرة جلالته: يوجد مرتل عظيم للإلهة (باستت ) ، يا أيها الملك يا مولانا ، اسمه (نفر- روهو) وهو شعبي قوي الساعد وكاتب حاذق الأنامل، فقال جلالته: أذهبوا وأتوني به ، فأدخل عليه في الحال، وقال جلالته: تعال الآن يا (نفر – روهو) ، يا صاحبي وحدثني ببعض كلمات جميلة ، كلمات مختارة حينما أسمعها ربما أجد فيها تسلية ، فقال المرتل ( نفر –روهو): هل ستكون الكلمات من الأمور التي حدثت أو مما سيحدث، يا أيها الملك يا مولاي؟ فقال جلالته: لا، مما سيحدث، إذ أن الحاضر قد دخل في الوجود ويمر الانسان به” .
وتتابع الوثيقة “ثم مد الملك يده إلى صندوق الكتابة وأخذ قرطاسا وقلما ومدادا ودون “كتابة ما تحدث به الكاهن المرتل “نفر – روهو” حكيم الشرق التابع للإلهة باستت، ابن مقاطعة عين شمس حينما كان يفكر فيما سيحدث في الارض، ويفكر في حالة الشرق حينما يأتي الاسيويين بقوتهم ، وحينما يعذبون قلوب الحاصدين ويغتصبون ماشيتهم وقت الحرث”.

سنفرو حاكم شعبي

ويوضح حسن أن المقدمة المنسوبة لمتن الوثيقة أشارت بوضوح إلى تفرد شخصية الملك سنفرو عن غالبية ملوك مصر القديمة، لافتا إلى وصفه بالملك المحسن، كما يظهر من نبرة خطابه مع موظفيه التواضع الشديد فهو يناديهم بإخواني كما خاطب الكاهن نفر – روهو بصاحبي، ولم يأمر أحد كتابه بكتابة ما يمليه بل أصر أن يكتب هو بنفسه كلام الكاهن.
ويعتبر حسن أن سنفرو كان أول حاكم شعبي في التاريخ استطاع ان يحفر اسمه في قلوب وعقول المصريين على مدار عصور التاريخ المتعاقبة ولا عجب انه انتقل إلى مصاف الآلهة وظلت عبادته مزدهرة حتى عصور البطالمة (332 ق.م).
ويشير حسن إلى أن سنفرو يقدم صورة مغايرة للملك في مصر القديمة والذي كان يعتبر نفسه إلها يعطي ويمنع ويشقي ويسعد، فهو بحسب حسن صاحب أول تجربة ديمقراطية في التاريخ، ملمحا إلى أنه ربما أراد (نفر – روهو) أن يضرب مثلا لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم في زمن افتقد فيه الشعب المصري القيادة الحكيمة وأدت الى فوضى فترة الحكم الاقطاعي (2181-2040 ق.م) .

“أصبح نيل مصر جافا”

ويشير حسن إلى أنه بعد المقدمة التاريخية المنسوبة إلى المقال، شرع (نفر – روهو) في مخاطبة قلبه مصورا مدى الخراب الذي لحق بالبلاد فيقول “أنصت يا قلبي وانع تلك الأرض التي منها نشأت ، لقد أصبحت البلاد خرابا فلا من يهتم بها ، ولا من يتكلم عنها ، ولا من يذرف الدمع: فأية حالة تلك التي عليها البلاد؟ لقد حجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس. وقد كان من تعطيل أعمال الري العظيمة العامة أن أصبح نيل مصر جافا فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم ، وكل طيب اختفى وصارت البلاد طريحة الشقاء بسبب طعام البدو والذين يغزون البلاد ، وظهر الأعداء في مصر فانحدر الأسيويون إلى مصر ، وسأريك البلاد وهى مغزوة تتألم ، وقد حدث في البلاد ما لم يحدث قط من قبل ، فالرجل يجلس في عقر داره موليا ظهره عندما يكون الآخر يبح بجواره ، وسأريك الابن صار مثل العدو والأخ صار خصما ، والرجل يذبح والده ، وكل فم ملؤه أحببني (صياح المتكفف) وكل الاشياء الطيبة قد ذهبت والبلاد تحتضر”.

أمنمحات.. المخلص

ويلمح حسن إلى أن (نفر – روهو) بعد أن وصف حال البلاد من جفاف للنيل وشح في الثمرات وغياب الأمن وتعرض البلاد للغزو الأجنبي، راح يبشر بظهور الملك المخلص والذي سوف يقيل البلاد من عثرتها ، فيقول “سيأتي ملك من الجنوب اسمه ( أميني ) وهو ابن امرأة نوبية الأصل، وقد ولد في الوجه القبلي وسيتسلم التاج الابيض وسيلبس التاج الاحمر فيوحد البلاد بذلك التاج المزدوج ، وسينشر السلام في الأرضين (يعني مصر ) فيحبه أهلها وسيفرح أهل زمانه. وسيجعل ابن الإنسان يبقى أبد الآبدين، أما الذين كانوا قد تأمروا على الشر ودبروا الفتنة ، فقد أخرسوا افواههم خوفا منه، والأسيويون يقتلون بسيفه، واللوبيون سيحرقون بلهيبه ، والثوار سيستسلمون لنصائحه ، والعصاة إلى بطشه، وسيخضع المتمردون للصل الذي على جبينه ، وسيقيمون (سور الحاكم) حتى لا يتمكن الأسيويون من أن يغزوا مصر ، والعدالة ستعود إلى مكانها، والظلم ينفى من الأرض ، فليبتهج من سيراها ومن سيكون من نصيبه خدمة ذلك الملك”.
ويوضح حسن أن (أميني ) هو الاسم المختصر للملك أمنمحات مؤسس الاسرة الثانية عشر (1991-1803ق.م) وهو المصلح الذي أعاد ألامور الى نصابها وانهى حالة الفوضى ، وهو ما أكده نقش تاريخي بعد رحيله بثلاثة أجيال ، جاء فيه ” أنه قد محا الظلم لأنه أحب العدل كثيرا ” .

نبوءة أم دعاية؟

ويطرح حسن تساؤلات حول حقيقة ما ادعاه (نفر – روهو) ، هل تنبأ فعلا بصعود نجم الملك أمنمحات كما حدث بالفعل؟ أم أنه تاريخيا عاصر فترة حكم أمنمحات كملك لطيبة، التي كانت بمنأي عن حالة الضعف والانقسام التي كانت سائدة في الشق الشمالي من البلاد بفضل حكمة وحنكته السياسية والإدارية، فكان يتمنى في قرارة نفسه أن يوسع أمنمحات من نطاق مشروعه الحضاري ليشمل مصر كلها؟
أم أن نفر – روهو كان مبعوثا من قبل امنمحات نفسه ليقوم بالدعاية السياسية له في الشمال؟ أو أنه كان من أنصار أمنمحات فعظم من أمجاده وإنجازاته مقارنة بما كان قبلها من دمار وخراب؟
ويرجح حسن أن نفر –روهو كان يستشرف الواقع ، فهو في الشمال يعاني من حالة الضعف والتشرذم بينما في الجنوب مملكة قوية يقودها قائد ناجح ، ويطمح المتنبئ بان ينجح ذلك القائد في مد نفوذه الى الجزء الشمالي ليعيد اليه النظام والعدل .

سور الحاكم

ويلفت حسن إلى أن (نفر – روهو) يطالب أمنمحات ببناء (سور الحاكم) والذي يشير إلى قلعة كانت موجودة بالدلتا الشرقية ومجاورة للتخوم الأسيوية، والهدف منها صد ومنع دخول الأسيويينا إلى مصر، لافتا ألى أنه من الجائز أن كلمة الاسيويين التي استخدمت في أكثر من موضع بالوثيقة تشير الى دخول العبرانيين الى مصر ، فهو يطالبه بصد الغارات الجارية في ذلك الوقت وصد أي غارات قد تحدث في المستقبل ، كما يطالبه بإصلاح النظام الداخلي للبلاد وهو ما عبر عنه النص بكلمة (الماعت) والتي تشير إلى النظام القائم على العدل والمساواة.

أعظم إداري

ويعتقد حسن أن الملك أمنمحات كان من أعظم الإداريين في العالم القديم واستطاع ان يضع نظاما اداريا دقيقا ومحكما أعاد للبلاد مجدها القديم ، وهو ما عبر عنه كاتب الوثيقة في خاتمتها “أن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض، فيبتهج من سيراها” ولكنه في نفس الوقت يلمح إلى التناقض الذي فرضته الأحداث التاريخية بعد ذلك مع حالة الابتهاج التي يقررها الكاهن (نفر – روهو) في آخر مقالته، إذ إن الملك أمنمحات بالرغم من أنه كان من أعظم إداريي العالم قد حتمت عليه الظروف أن يستعين بموظفين من أولئك الذين عاشوا في فترة الانحطاط فكان مصيره أن يقتل في مخدعه وهو ما أكدته الوثيقة المعروفة ب”النصائح المنسوبة لأمنمحات” حتى أن أمنمحات يوصى ابنه سنوسرت بأن يحذر من موظفيه وينصحه بأن يتخذ جيلا جديدا من الشباب لمعاونته في إدارة البلاد .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى