“بحر الدميرة” الوجه الغاضب لـ”النيل”..اعرف الحكاية
احتفال المصريين يرتبط بشكل أو بآخر بالنيل العظيم، فهم إذا حزنوا ذهبوا إلى النيل، مودع الأسرار، كما جرت العادة أيضًا تحديد موعد الأفراح في أوقات الفيضان، قبل بناء السد، وإذا حزنوا حملت النساء “النيلة” على رؤوسهن.
والنيلة قطعة طين من النهر توضع فوق الرأس أربعين يومًا، أما إذا تعسرت الولادة فماذا كان النساء يفعلن إلا أن يلجأن إلى النيل، فتبتلع الواحدة منهن قطعة من طينه لتسهيل الولادة، إن النيل رفيق وطبيب لا يمله المصريون ولا يملهم.
كان من عادات المصريين أوقات الفيضان تفريق العطايا واغتسال ذوي العاهات في مياه الفيضان لـ”يطيب لحمه”، واستمر ذلك الاعتقاد إلى وقت قريب في القرى، فضلًا عن الاعتقاد أن مياه النيل تساعد على سرعة التئام الجروح، بحسب ما ذكره هشام عبدالعزيزي في كتابه “فلكلور النيل”
وإذا احتضر الفلاح وجاء أجله نسي كل شيء، لكن أهله جميعا لا ينسون أن يعطونه جرعة أخيره من “الماء الحي”، من ماء النيل.
بحر الدميرة
والنيل كما أنه “جبَّار الخواطر” وهو الشهم طبيب المرضى، فهو أيضًا بحر الدميرة، وهي أوقات الفيضان، حيث كان النهر يُغرق بيوتًا وأقاليم، هذا الفيضان كان يُطلق عليه “بحر الدميرة”.
بحر الدميرة جروف فوق جروف
ولا قلب رق يطلع الملهوف
بحر الدميرة رمال فوق رمال
ولا قلب رق يطلع الغرقان…
لقد أطبق بحر الدميرة على الغريق، وغيبه في أعماقه، كما يبتلع التيه الضال فيه، كلاهما رمال فوق رمال، والدميرة هي الفيضان والجرف شط النيل.
والبنت عندما غرق والدها أخذت تردد أغان غاية في الحزن قائلة:
واقول عليك يا فلق من نخلة
والله رجيل وصاحب النخوة
واقول عليك يا فلق من جميزة
والله رجيل وصاحب الهيبة
أبوي العزيز أوعى تكون نايم
عدي البحر وتعالى عايم
والفِلق هي جذع النخل، ويضرب به المثل للرجل قوي البنية، و”رجيل” بحسب لهجة الصعيد القصد منها المبالغة في رجولته وقوته، واللفظ يرتبط غالبًا بمواقف البطولة، ثم تقول “أوعى تكون نايم، عدي البحر وتعالى عايم” وهنا عبور البحر مظهر قوته وقدرته.
موسم جبر الخواطر
ولأهمية النيل في حياة المصريين اقتصاديا واجتماعيا فقد كان وقت الفيضان ونقصانه وزيادته أمور في غاية الأهمية، وعندما يزيد ماء النهر بعد النقطة بـ17يومًا، يدور المنادي على أهل البلد، وكل حي كان له مناد بمرتب شهري، يأتي كل صباح ينادي ومعه طفل يردد وراءه.
يقول: يا من تدبيره عظيم، فيرد الطفل مولاي مالي غيرك، ويستمر في تسبيح الله إلى أن يصل إلى بيت فلاح يروي ويزرع ويحصد فيقول: والله يؤمنني على سر فلان، ويرد الصبي أي ان شاء الله
وكما تقول نعمات فؤاد في كتابها “النيل في الأدب الشعبي” كان من العادات أيضًا أن يطوف المنادون مع صبياهم على البيوت وهم ينشدون بالمعازف والطبل.
المنادي: وحلَّ جبر الخواطر
الصبيان: عوف الله
المنادي: وجبر الخواطر على الله
الصبيان: عوف الله
دا شيء من السنة للسنة… والمنادي يستطرد في مناداته والصبيان يردون في كل مرة عوف الله، فماذا يقصدون بعوف الله، هل هي محرفة من أوفى الله بمعنى أن الله أوفى وبعث النيل فياضَا فسقى زروعهم، أم يقصدون عفو الله فبدلوا الحروف؟ كلا الأمرين جائز، خاصة أن عوف الله تلك تطورت إلى تحية عندما يلقيها الناس في القرى البعيدة على بعضهم بعضَا “عواف عليك” أو عوافي ليرد الآخر الله يعافيك.
نعود إلى المنادي وصبيه، فما زالت تلك العادة موجودة في قرى الصعيد، إلا إنها بعد بناء السد تغير الوقت ليصبح وقت الحصاد، بدلًا من الفيضان، إذ هناك مهن يتعين لأصحابها نصيب معلوم من القمح أو المال بشكل سنوي ثابت، مثل التربي وصانع الكفن والمغسل.
ويظل النيل يغني، ويلهم ويسرح المصريون في حكاويه، ورغم أنه كريم معطاء إلا أنه لا أمان له، فإذا جاء “بحر الدميرة” فخف على نفسك منه.