المزيد

ممبار يولع القلب نار.. حكاوي «درب المسمط» بين طعام الفقراء وأشواقهم

أميرة جادو

يعتبر «درب المسمط» الموجود خلف «المسافر خانة» من أشهر دروب حي الجمالية، حيث تتصاعد أبخرة الماء من «الحلل» الضخمة المملوءة بـ «الكرشة والفشة ورؤس الضأن» فوق كانون الخشب الممتد بطول، ينطلق من هذه الحلل خليط من الروائح تسيل لعاب زبائنها المنتظرين بطول السور القديم.

خيمة المسمط

وهناك بالدرب خيمة قديمة متهالكة غطت مساحة كبيرة منه، تشير إلى تاريخها العتيق، فقد أثر عليها الزمن وحفر عليها ثقوب كثيرة تتناثر فيها ليسقط منها مياه الأمطار كمزاريب توقظ عين من غفل من الزبائن عن وجبة «الشيخ حسين» صاحب المسمط، جميعها مشاهد رصدها المؤلف سعيد الجزار في كتابه «درب المسمط».

مزيج عجيب من البشر يبدو غير متجانس يتنافسون في طلب وجبة الشيخ حسين، التي تتكون من «فتة الكوارع» و«الممبار» ومرقة «أم الشلاتيت» ذات الثمن الزهيد.. لا يجمع هذا الخليط غير الحاجة وضيق ذات اليد.

من هم زبائن خيمة المسمط

وكان أول من يتصدر صفوف هذا الجمع هم «مجاورين الأزهر» – مكفوفين ومبصرين- نظرًا لما تميزوا به من خفة ظل تتمثل في إلقاء النكات والتعليقات الساخرة، ولكن أهميتها الكبيرة تمثلت في «الأرجوزة» التي كان ينشدها «الشيخ طلعت».

وبجانب «مجاورين الأزهر» كان يقف عدد كبير من «طبالي» شارع محمد علي، الذين يعلنون عن قدومهم بالنقر على طبولهم بنغمة «واحدة ونص» الراقصة أو موسيقى «بلادي.. بلادي» للشيخ سيد درويش، وكأنهم مقبلون على معركة حربية.

 نساء سوكندو كلوت بك

وكان من بين الزبائن «إستورجية المغربلين» و«خيامية تحت الربع»، يتقاسم الانتظار مع كل هؤلاء «سوكندو كلوت بك»، وهن نساء شارع كلوت بك اللائي كن يتخذن من الدعارة عملًا لهن، ثم ذهبت الأيام بجمالهن تحت وطأة الرذيلة وضياع مصدر الدخل.

وتحول لقب «سوكندو» فيما بعد ليصبح «سكند هاند» أي نساء درجة ثانية، فأخذن يبالغن في زينة وجوههن بطبقات من «الكحل» حول العينين لإخفاء تجاعيدها، علاوة على أصباغ فاقعة منفرة تزيد من قذارة المنظر.. ملاءة تشوه لونها ورفعت في تعمد ظاهر لتبين عن ساق تلاشى ما بها من جمال فأصبحت كأنها تحمل على قصبة من عظم يرفعها عن الأرض حذاء ذو كعب عال تناثرت فيه المسامير الصدئة.

نساء البريمو

وبجانب النساء الذين نالوا لقب «سوكندو»، نساء «البريمو» أي النساء الدرجة الأولى اللائي مازلن بالخدمة، وكانت تلك النسوة يبالغن في تزيين أظافر الأقدام بالطلاء الأحمر الفاقع، لتظهر من الصندل ذي الكعب العالي، وتكشف كل واحدة منهن عن ساقيها فيشتعل الدرب لقدومهن.

ويشتعل الشجار بسبب الغيرة بين «السوكندو» و«البريمو» اللائي كن يبدأن بالهجوم كخير وسيلة للدفاع، فكن يبدأن ببدايات منها «ما راحت عليكو زي سوارس».

وسوارس عربة كارو ضخمة لها سلالم يصعدها الركاب ويجرها بغل ضخم يتنقل بها كوسيلة للمواصلات حينها، وألغيت بعد انتشار الترام لعدم قدرتها على المنافسة.

لكن نساء «السوكندو» ترد في غيظ: «فشر يا عوجة إنتي وهيه.. ده سوق الحلاوة جبر وأدلعوا الوحشين.. ولسه الدهن في العتاقي وقال علي رأي المثل لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك».

ولا يفوت هذا المشهد سريحة «العفوش» فيهمس «البهلوان» إلى  من حوله من السريحة الذين بدأت حواسهم تستيقظ مع قدوم «البريمو»: «آدي الكوارع اللي تخلي العجوز يسارع صحيح».

وكان يقف بين هذا الجمع الكبير  «سريحة الغجر»، الذين يعملون في «ضرب الودع» وقراءة البخت يشاركهم الأنظار أيضَا بائعو «اليانصيب من الصبية والعجائز بين مقاهي وقد أتعبهم التجوال بين مقاهي وحانات شوارع محمد علي  وكلوت بك وبركة الرطل».

الدرب الأصفر وحارة الميصة

مشاهد تمتد لأطفال «الدرب الأصفر» وحارة «الميصة» من المزاحمين لهذه الجموع بسلطاناتهم القديمة.. يضعون بها «النكلة» و«المليم» ثمنًا لمرقة «أم الشلاتيت» التي أطلقت عليها الأمثال الشعبية بحي الجمالية «مرقة أم الشلاتيت ولا سلف القرنبيط»، حيث كانت تمثل هذه «المرقة» أدنى مستويات الثمن والفائدة عند الفقراء التي وصفوها بقولهم: «مرقة أم الشلاتيت لا تعافي ولا تشافي».

سريحة العفوش

كان «سريحة العفوش»، وهم باعة الكرشة والفشة والكوارع، الجائلين يتناثرون في مدخل الدرب متخذين من قففهم وجرادلهم وسائد للاضطجاع أو لنوم بعد يوم شاق من السروح.. ألقى بهم كساد البيع طوال النهار إلى «الشيخ حسين» بعد أن أعياهم التجوال فرادى وجماعات في مفارق القاهرة الثلاثة، حيث كانت كل جهة تخص نصيب أحد المعلمين الثلاثة للسروح وهم الحاج طه القشيشي والحاجة حندوقة والحاج أبو أحمد جويل.

أما «سريحة» الحاج «صه القشيشي» فكانوا يبدأون التجوال من «سكة المدبح» يتجهون بعدها إلى شارع الخليج ثم يسارًا إلى شارع الشيخ ريحان ويخرجون بعدها إلى «درب المهابيل» فميدان العتبة وتنتهي الرحلة عند «شق العرسة» في نهاية شارع «كلوت بك» وهم يملئون المكان صياحًا وضجيجًا بنداءات:

كوارع تخلي العجوز يسارع

ممبار يولع القلب نار

عكاوي تعمل بلاوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى