وطنيات

مسعد حنا عبد المسيح.. قصة بطل من خفايا الذكريات وبطولات شعب مصر العظيم

أسماء صبحي
 
في شهر مايو 1974 دقت أجراس مطرانية المنيا، إيذانا باستكمال إكليل العريس مسعد حنا عبد المسيح من قرية تله، علي مريم جرجس قلادة، جلس العريس أمام المذبح مع عروسه يرتدي جلبابًا أبيض ويلف رقبته بشال أبيض، كان العريس نحيف القوام جاحظ العينين طويل الوجه مع شارب خفيف أسفل أنفه المدبب، كان زائغ النظرات، ينقل عينيه سريعًا في قلق بين المدعوين وباب القاعة الرئيسية، ويرسم علي وجهه ابتسامة باهتة.
 
لاحظت العروس ما به فسألته عن سبب قلقه، ابتسم وقال لاشيء، وراح يتمتم لنفسه: “ربما لن يأتي، ربما لم يصله التليغراف، ربما كانت مشغولياته تمنعه”، وصعد القسيس على المسرح المقام أمام المذبح ليبدأ إجراءات الإكليل، بدأ يتلو صلواته وسط سكون المدعوين.
 
وفجأة علت همهمة بين الحضور بدأت وتيرتها ترتفع، استدعي ذلك نظر القسيس الذي أوقف الصلوات، دخلت مجموعة من أمناء الشرطة داخل القاعة، يتبعها مأمور قسم المنيا، بدأ الجميع يتوجس خيفة، أنهم قرويون بسطاء، لم يروا هذا المأمور إلا في المناسبات القومية ويوم وقفة رمضان والعيد…أيكون معزومًا ؟ وفي فرح من ؟ مسعد ابن فريال؟ أرتسمت على وجه مسعد بعض الطمأنينة.
 
تقدم المأمور وجلس في الصف الأول، وفجأة بدأت الهمهمة تتزايد، ثم بدأ المدعون يقفون للزائر الجديد، ويطلقون الزغاريد، وتلتهب أكفهم بالتصفيق، لم يكن الزائر سوي اللواء أ.ح “حسن أبو سعدة” قائد الفرقة الثانية مشاة والتي كانت طليعة الجيش الذي أقتحم خط بارليف، وما أن رآه مسعد حتى سحب يده من يد القسيس وقفز من فوق المسرح مهرولاً نحو الزائر الجديد، تعانقا طويلا، صاح مسعد والدموع تختلط بكلماته: “كنت عارف إنك مش هاتكسر بخاطري وهاتحضر جوازي رغم مسئولياتك ومشاغلك”، ربت اللواء على كتف مسعد وقال “الوعد يامسعد”.
 
اصطحب مسعد اللواء حسن إلى الصف الأول وجلس بجانبه ناسيا العروس والإكليل حتي نبهه القسيس، صعد للمسرح وعيناه لم تزل معلقة على اللواء وبمجرد أن انتهى من إتمام الإكليل صعد اللواء حسن إلى خشبة المسرح وأمسك بالمايك: “لقد جئت من مسافة 650 كيلو لأحضر فرح مسعد، وفاء لوعد قطعته علي نفسي أمامه”.
 
وزاد في كلامه: “هذا الرجل الذي يجلس أمامكم ليس رجلا عاديا. إن بطولاته تدون في كتب، لن أنسي أول مرة رأيته فيها، كان أشبه بالطفل الذي ضاع من أمه في الزحام، يخاف من كل أحد وكل شيء، ينظر لما حوله بتوجس، فهو لم يخرج من حدود قريته وتم تجنيده ..أخذوه من الدار الي النار، أشفقت عليه، ضممته الي المجموعة الخاصة بي، كنت أراه ينظر للدبابة في دهشة بالغة وأحيانا كنت أراه يدور حولها ليكتشف هذا الكائن الاسطوري”.
 
وتابع: “ذات يوم دخل مكتبي، وطلب أن ينضم لفرقة الآر بي جي التي تنظمها القيادة، قلت له إن هذه الفرقة قاصرة علي المتعلمين وأنت لا تجيد القراءة ولا الكتابة، فجأة مال على يدي ليقبلها حتي أوافق، رأيت في عينه إصراراً غريبًا، قبلت على مضض وتحت مسئوليتي، المفاجأة أنه كان الأول دائما علي جميع أفراد الفرقة”.
 
وأضاف: “ثم بدأت الحرب وعبرنا القناة وكان هو في مجموعة القناصة، هاجمنا اللواء 190مدرع بقيادة عساف ياجوري، تصدت له كتية الآر بي جيه وعلي رأسها مسعد، كان كل صاروخ على كتفه يساوي دبابة، لم يخطئ مرة واحدة، نفدت ذخيرته الصاروخية، وفجاة لمح دبابة تهرب من ميدان المعركة وتكاد أن تفلت، فجأة ينطلق خلفها مسعد يسابق الريح، يقفز على مؤخرتها كالنمر الكاسر، يفتح باب برجها ويلقي داخله بقنبلة يدوية، ثم يقفز بسرعة رهيبة، لتتحول الدبابة الي كتلة من النيران، ثم تأتي مجموعة من العربات المجنزرة ويتم التعامل معها، تتعطل عربة ويهبط منها ضابطان يجريان ناحية الأحراش، ينطلق خلفهما مسعد دون انتظار أي أوامر بالاشتباك، يغيب لدقائق ثم يعود ووجهه مضرجًا بالدماء وهو يسحب أحد الضابطين من قدمه ليلقيه أمام زملائه”.
 
وقال: “ثم يعاود الدخول للأحراش مرة أخرى كنمر يعرف جيدا بقايا فريسته، يتأخر حتي يأكلني القلق عليه فأدفع بمجموعة من الجنود للمساعدة، وفجأة يخرج مسعد بنفس الصورة ساحباً الضابط الآخر من قدمه، هذه المرة يسقط مغشيا عليه، نقلته للمستشفي، لأفاجأ في اليوم التالي بمسعد يقف أمامي وقد غطي وجهه وزراعه بالضمادات، عاد وهو يحمل على كتفه مجموعة جديدة من الآر بي جيه، نلتحم ثانية مع تبة حصينة ويكون مسعد أول المقتحمين”.
 
واختتم حديثه قائلًا: “ثم تنتهي الحرب ويسلم مسعد مهماته العسكرية، يتقدم مني على استحياء ويعانقني ثم يقول لي: “لي عندك طلب، أنا هاتجوز قريب، ممكن تشرفني في الفرح” ربت علي كتفه وقلت له “أعدك يامسعد”، يصلني بالامس تليغرافه، لم أكن أستطيع التخلف عن هذه المناسبة، اعتبرتها واجب قومي وأقل شئ يقدم لهذا البطل”.
 
كانت العروسة تسمع هذا الكلام وتنظر لمسعد غير مصدقة، أهذا الشاب الخجول يصنع كل هذه البطولات، تهمس أم العروس في أذن ابنتها “ده اللي كنتي مش عايزاه”، يستأذن اللواء حسن في الانصراف ويصر مسعد أن يترك عروسه ويوصله لمحطة القطار، وقفا سويًا يستعيدان ذكريات الحرب، ثم أقبل القطار فأخرج اللواء حسن مظروفًا دسه في جيب مسعد، ثم قال له وهو يودعه: “عايزك راجل يلا في بيتك زي ما كنت في الحرب”، يضرب مسعد علي صدره بفخر “إحنا أسود يافندم”.
 
يعود مسعد للمطرانية ليستكمل فرحه، ليفاجأ بالمطارنة والقسوس وقد اصطفوا في استقباله كحرس شرف، هذا يسلم عليه وهذا يقبله وذاك يعانقه، وبعد تسعة أشهر يرزق مسعد بمولود ذكر، يصر على أن يسميه حسن رغم اعتراض الجميع، ولكن من كان يستطيع أن يعارض أسدًا بمخالب وأنياب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى