أنا دمي فلسطيني
بقلم..عبد الحليم قنديل..
كان التصرف عفويا غريزيا تماما ، وناطقا صادقا بفطرة المصريين الوطنية ، وواصلا عابرا إلى وجدان أجيال شابة ، عمرها أقل من نصف عمر ما تسمى “معاهدة السلام” مع إسرائيل ، كان عدد من الطلاب المصريين على متن باخرة سياحية عند شواطئ “دهب” ، مدينة الرمال الذهبية الواقعة فى نقطة قريبة من حدود مصر التاريخية مع فلسطين المحتلة ، وما إن علم الطلاب بوجود حفنة سياح إسرائيليين على الباخرة ، حتى كان الرد التلقائى ، الذى جعل الإسرائيليين يفرون بجلودهم ، هلعا ورعبا من قصف غنائى مفاجئ ، صار واحدا من أيقونات الوطنية المصرية ، والتحامها العضوى بالهم الفلسطينى ، وفى صورة شريط “فيديو” حماسى للطلاب المصريين ، وهم يغنون “أنا دمى فلسطينى” .
بدت الصرخة الموسيقية بإيقاعها الفلسطينى ، كأنها تعويذة سحرية تفتك بأعصاب الإسرائيليين ، والأغنية كما هو معروف للمطرب الفلسطينى الشاب “محمد عساف” ، الذى زار القاهرة أخيرا ، وبدعوة رسمية من وزارة الثقافة المصرية ، وشارك فى الدورة الثلاثين لمهرجان “الموسيقى العربية” ، وصدح بأغنية “أنا دمى فلسطينى” وغيرها ، وكانت حفلته كاملة العدد وتزيد ، ولم يبق فيها موضع لقدم ، تماما كحفلات أشهر المطربين والمطربات العرب ، الذين تباروا بالأداء فى أهم محفل غنائى عربى جامع ، وشعر “عساف” ، الذى اشتهر بأغانيه ومواويله من نوع “على الكوفية” و”جينالك يا فلسطين” وغيرها ، وهو يغنى مع فرقته على مسرح “النافورة” بدار الأوبرا القاهرية ، وكأنه بين أهله فى “خان يونس” الفلسطينية ، ومن دون أن يفاجأ بحماس أجيال جديدة من المصريين ، ربما لم يقرأ أغلبهم كتابا واحدا عن قضية فلسطين والصراع العربى الإسرائيلى ، ولم يشهدوا جميعا ، لاهم ولا جيل آبائهم الأقربين حربا واحدة من حروب مصر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، فقد دارت آخر حرب شاملة قبل ثمانية وأربعين عاما ، ووصفها الرئيس السادات بعدها بأنها آخر الحروب ، وأغلب ما يسمعونه أو يرونه فى وسائل الإعلام العامة ، أن مصر عقدت مع إسرائيل “معاهدة سلام” قبل نحو أربع وأربعين سنة ، وأن المسئولين المصريين والإسرائيليين يتبادلون الزيارات واللقاءات والمجاملات ، لكن ذلك كله ، لم يفتح قلوبهم للإسرائيليين ، ولا نزع عروة المحبة الوثقى لكفاح الشعب الفلسطينى وقضيته ، برغم أخطاء وخطايا وجرائم سابقة لفصائل فلسطينية فى حق المصريين ، بالغت دوائر إعلام فى تضخيمها وتعميمها (قبل التفاهم الأمنى الملموس بين حركة حماس والسلطات المصرية المعنية) ، وأرادت أن تقيم بها “حاجزا نفسيا” بين المصريين والفلسطينيين ، ربما على أمل إقامة جدار كراهية للفلسطينيين ، قد يفيد بالمقابل ، فى فتح ثغرة بحائط الصد المصرى الشعبى للإسرائيليين ، الذين لم يفلحوا أبدا فى مد جسور تطبيع شعبى مع المصريين ، فلا يزال التطبيع عند أغلب المصريين عارا وخيانة ، وجريمة مخلة بالشرف الشخصى ، تسقط اعتبار مقترفها أيا ما كان اسمه ورسمه .
وربما لا تكون من حاجة لتذكر أمثلة قريبة وبعيدة ، من الكاتب المسرحى الراحل على سالم ، إلى النائب السابق توفيق عكاشة ، إلى الممثل والمغنى الراقص محمد رمضان ، وكلهم مع غيرهم ، راحوا ضحية ضبطهم فى حالة تلبس بارتكاب الجرم المشهود ، بالدعوة إلى تطبيع شعبى ، أو التقاط الصور مع إسرائيليين ، وكان الجزاء احتقارا شعبيا غالبا ، وردود فعل وصلت إلى التعرض البدنى ، على طريقة ضرب توفيق عكاشة بالحذاء فى قاعة البرلمان ، أو “العلقة الساخنة” ، التى تلقاها محمد رمضان من شبان مصريين صادفوه فى الطريق ، برغم كذب رمضان دفاعا عن نفسه ، وادعاؤه أنه لم يكن يعرف “الهوية الإسرائيلية” لمن ظهر معهم فى “دبى” ، بعدها تراجع المطرب المصرى الشهير “محمد منير” عن إقامة حفل كان مقررا فى “القدس” المحتلة ، فقد ظل الرفض الشعبى المصرى التلقائى عنصر ردع جاهز مستنفر دائما ، ويجرى توريثه جيلا فجيل ، وعلى نحو شبه “جينى” ، لا يشترط فى صاحبه عملا بالسياسة ، ولا انتماء ولا اقترابا من حزب أو تيار سياسى بعينه ، فيكفى أن تكون مصريا لتعادى الإسرائيليين الغزاة ، وقد قدم المصريون فى الحروب مع الكيان الصهيونى أكثر من مئة ألف شهيد وجريح ومعاق ، وتضحيات تفوق تضحيات أى شعب عربى آخر ، وبمن فيهم الفلسطينيون ، ولم ينقطع حبل التضحيات أبدا بعد توقيع ما تسمى “معاهدة السلام” ، من الشهيد “سعد إدريس حلاوة” إلى “سليمان خاطر” و”أيمن حسن” ، وأبطال منظمة “ثورة مصر” الناصرية ، وإلى تضحيات المئات فالآلاف من المثقفين والنشطاء المصريين ، الذين طوردوا وسجنوا لرفضهم التطبيع مع إسرائيل ، وحالوا دون مشاركة الإسرائيليين فى معرض الكتاب والمعرض الصناعى وغيره ، وصنعوا دستورا شعبيا حاكما فى كافة النقابات المهنية والعمالية والفلاحية ، جعل “التطبيع” من موجبات إسقاط العضوية ، وجعل لقاء الإسرائيليين أم الجرائم ، برغم أن القانون الرسمى يعتبر أن “إسرائيل” دولة صديقة ، ويتبادل معها التمثيل الدبلوماسى ، ويعقد اتفاقات “الكويز” و”الغاز” ، وهو ما يرفضه الرأى العام المصرى بغالب أصواته ، ولا يقنعه كل ما يقال عن الفوائد الاقتصادية الضخمة ، التى تجنيها الدولة المصرية ورجال أعمالها .
نعم ، بين المصريين والإسرائيليين مواريث دم لاتصير ماء ، وهو ما صنع معادلة مميزة فى مصر بعد عقد ما تسمى “معاهدة السلام” ، معادلة يتصرف ويشعر فيها أغلب المصريين ، أن المعاهدة لا تعنيهم ، وأنها من عمل الحكومات الذى لا يلزم الشعوب ، فلن تجد شعبا عربيا يعادى الإسرائيليين أكثر من المصريين ، ولن تجد إسرائيل عائقا للتطبيع الشعبى أكثر من سواد المصريين العاديين ، فالقصة عند المصريين أكبر من مصير سيناء ، وقد عادت سيناء لمصر رسميا مع عقد المعاهدة ، ثم عادت فعليا لا صوريا ، بعد إنهاء ودوس مناطق خفض ونزع السلاح ، وفرض أمر واقع جديد ، جرى ترسيمه مؤخرا باتفاق تعديل الملاحق الأمنية للمعاهدة ، وبتضحيات دم هائلة من الجيش المصرى ، فى حرب حملت رسميا عنوان “مكافحة الإرهاب” ، لكنها كانت وتظل فى مغزاها الكلى ، حربا لتحرير سيناء فعليا ، ووصلا لما كان انقطع منذ وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر 1973 ، التى لم تكن آخر الحروب كما تصور السادات ، فوجود إسرائيل فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته ، وقضية فلسطين مسألة وطنية مصرية ، وهذه عقيدة الشعب المصرى كما عقيدة الجيش المصرى ، برغم تقلبات السياسة وأنظمة الحكم ، فالشعوب وضمائرها وجيوشها الوطنية هى الأبقى ، ولا صوت يعلو شعبيا فى مصر على صوت العداء لإسرائيل ، حتى لو تكاثرت خطط الالتفاف السياسى والثقافى والدينى ، وجرى التلاعب بالصيغ والرموز المقدسة ، وعلى طريقة دعوى “الديانة الإبراهيمية” مثلا ، ولم يكن مفاجئا لأحد ، أن الدعوى الهجينة المريبة ، تلقت الضربة الحاسمة من مصر بأزهرها وكنيستها ، وفى مناسبة بدت داخلية تماما ، ففى لقاء احتفالى جرى أخيرا بالذكرى العاشرة لإنشاء “بيت العائلة” ، وهو منبر تأسس عام 2011 ، بناء على مبادرة مشتركة من الأزهر والكنيسة ضد الاحتقانات الطائفية ، وسرعان ما تحول اللقاء عن الشواغل الداخلية المصرية ، وبدت كلمات المشايخ والقساوسة المشاركين ، كأنها طلقات مصوبة عمدا ضد “الدعوى الإبراهيمية” واتفاقات تطبيعها عربيا ، وأعلن شيخ الأزهر رفضه لدعوى “الديانة الإبراهيمية” ، وعدها دعوى سياسية معادية ، تصادر على حق المسلمين كما المسيحيين فى حرية الاعتقاد والإيمان وكسب حرية الأوطان ، وهو نفس ما ذهب إليه قادة الكنيسة المصرية ، وبدا الموقف سياسيا مقصودا فوق أصالته الدينية ، برغم ما هو معروف من صلات حسنة بين الحكم المصرى وبلدان الدعوى والاتفاقات “الإبراهيمية” ، وبرغم ماهو معروف أيضا ، من طبيعة صلات الدولة المصرية الممتدة مع “الأزهر” و”الكنيسة” ، وكلها سمحت بأن يجرى ما جرى ، فالدولة المصرية ذات السلوك المركب المعقد متعدد الطبقات ، قد لا تمانع فى عقد اتفاقات رسمية مع إسرائيل ، لكن أجهزتها تعيق عمليا أى تطبيع شعبى مع إسرائيل ، على نحو يستجيب جزئيا للشعور الشعبى العام ، ويراعى جوانب التحصين الأمنى فى الوقت ذاته ، وقس على ذلك ما جرى بعد حادث اقتحام وإحراق الشباب المصرى لمقر السفارة الإسرائيلية الأول على شاطئ النيل بالجيزة ، ثم نقل مقر السفارة إلى منزل السفير ، والرقابة اللصيقة المفروضة ، التى تجعل لقاء سفير العدو بأى مصرى عملا باهظ الكلفة ، وحتى فى مزارات سياحة سيناء ، لا يخفت دبيب المراقبة ذاتها ، فكل إسرائيلى زائر قد يكون جاسوسا محتملا ، وهو ما يفهمه المصريون المعنيون ضمنا ، ويطلق مشاعرهم المختزنة بالصدور وقت الحاجة ، وعلى طريقة ما فعل الطلاب المصريون ، الذين طردوا الإسرائيليين بسحر تعويذة “أنا دمى فلسطينى” .