وطنيات

حرب أكتوبر.. وخطة الخداع الاستراتيجي في يوم النصر

أسماء صبحي
مع بداية التخطيط لحرب اكتوبر كان لابد من وضع خطة استراتيجية لخداع العدو حتى لا يفطن إلى استعدادات مصر لخوض الحرب ضدهم، ولذلك في يوليو 1972 عقد الرئيس السادات اجتماعًا موسعًا مع رئيس المخابرات العامة والمخابرات الحربية ومستشار الأمن القومي والقائد العام للقوات المسلحة لوضع خطة خداع استراتيجي تسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجي والتسليحي الإسرائيلي، عن طريق إخفاء أي علامات للاستعداد للحرب وحتى لا تقوم إسرائيل بضربة إجهاضية للقوات المصرية في مرحلة الإعداد على الجبهة.
 
وكانت أهم محاور هذه الخطة تتلخص في 6 محاور رئيسية، وكان للمحور السادس تأثيرًا كبيرا على مجريات الامور فى ذلك الوقت، وجاءت هذه المحاور كالتالي:
 

اجراءات الجبهة الداخلية

أولها محاولة استيراد أكبر مخزون استراتيجي ممكن من القمح لاستخدامه اثناء العمليات الحربية، ولتبرير استيراد هذه الكميات و لخداع العدو قامت المخابرات العامة آنذاك بتسريب معلومات بأن أمطار الشتاء قد غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها من قمح، وتحوّل الأمر لفضيحة إعلامية صالت وجالت فيها الصحف القومية وهاجمت الحكومة هجومًا ضاريًا إمعانًا فى خداع العدو ، واستوردت مصر على أثر هذه الحملة الكميات المطلوبة كمخزون استراتيجي إضافي.
 
ولتوفير أماكن بالمستشفيات من أجل العمليات الحربية أو إخلاء المستشفيات تحسباً لحالات الطوارئ، قامت المخابرات بتسريح ضابط طبيب من الخدمة وتعيينه بمستشفى الدمرداش، ليقوم بدوره حسب الخطة الموضوعة ويعلن عن اكتشافه تلوث المستشفى بميكروب خطير، ووجوب إخلائها من المرضى لإجراء عمليات التطهير.
 
وفي اليوم التالي نشرت الصحف القومية وتصدرت عناوين جريدة “الأهرام” الخبر مهاجمةً الحكومة، ومعربةً عن مخاوفها من أن يكون التلوّث قد وصل إلى مستشفيات أخرى، فيصدر القرار بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات، وأخليت على إثر هذا التفتيش باقي المستشفيات فى مصر استعداداً للحرب.
و لما كانت حالة الحرب تستدعى تقييد الإضاءة خلال الغارات فقد تم استيراد مصادر بديلة للإضاءة بتنسيق أحد مندوبي المخابرات مع أحد مهربي قطع غيار سيارات لتهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام، وبمجرد وصول الشحنة كان رجال حرس الحدود في الانتظار، واستولوا عليها كاملة وتم عرضها بالمجمعات الاستهلاكية.
 
ومن أجل تقليل الانتباه العام دعا الفريق أول أحمد إسماعيل جميع وزراء الحكومة يوم 27 سبتمبر 1973 لزيارة هيئة الأركان العامة لاطلاعهم على الجديد من الأجهزة المكتبية والحاسبات الآلية التى استوردتها، وذلك فى جو شبه احتفالى يعكس مدى استرخاء القوات المسلحة و عدم جاهزيتها لأي حرب محتملة.
 

إجراءات نقل المعدات

كانت هناك إشكالية تتمثل في نقل المعدات للجبهة، ومنها المعدات الثقيلة كالدبابات، فقامت القوات المسلحة بنقل ورش إصلاح المعدات الثقيلة والدبابات إلى الخطوط الأمامية، ثم القيام بدفع الدبابات إلى هناك في طوابير بحجة إصابتها بأعطال وحاجتها إلى الإصلاح.
أما نقل معدات العبور والقوارب المطاطية، فقد تم عن طريق تسريب المخابرات تقريراً يطلب فيه الخبراء استيراد كمية مضاعفة من معدات العبور مما أثار سخرية إسرائيل، وعندما وصلت الشحنة ميناء الإسكندرية، ظلّت ملقاة بإهمال على الرصيف حتى المساء، في ظل إجراءات أمنية توحى بالاستهتار واللامبالاة، وأتت سيارات الجيش فنقلت نصف الكمية إلى منطقة صحراوية بضاحية (حلوان)، وتمّ تكديسها وتغطيتها على مرمى البصر فوق مصاطب لتبدو ضعف حجمها الأصلي، فيما قامت سرًا سيارات مقاولات مدنية بنقل الكمية الباقية الى الجبهة مباشرة.
 

إجراءات خداع ميدانية

تم اختيار أماكن مشابة لقناة السويس للقيام بالتدريب على عمليات العبور، وقد قامت قواتنا المسلحة بارتداء الملابس المدنية وهم يقومون بالتدريب على حمل القوارب المطاطية وإنزالها فى المياه و عبور ترعة الإسماعيلية، ولم يكن أحد يفهم ماذا يفعلون فى ذلك الوقت، وفهم الناس ما كان يحدث بعد أن تكرر المشهد بالضبط على شاشات التليفزيون التى أذاعت لقطات من العبور و لكنهم كانوا هذه المرة بملابسهم العسكرية.
 
ساعد توافر المعلومات الحيوية الدقيقة والخبرات الفنية للمخابرات المصرية، على بناء نماذج لقطاعات خط بارليف بعيدًا جدا و في الصحراء الغربية لتدريب الجنود عليها وخداع الأقمار الصناعية لملء المعسكر بعدد من الخيام البالية والأكشاك الخشبية المتهالكة، ولافتات قديمة لشركات مدنية.
 
ولخداع اسرائيل وللتأكيد على عدم النية في خوض القوات المصرية الحرب، صدر قرار فى يوليو 1972بتسريح 30 ألف من المجندين منذ عام 1967 وكان معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية، وفي مواقع خلفية.
 
التمويه برفع درجة الاستعداد القصوى للجيش وإعلان حالة التأهب في المطارات والقواعد الجوية من 22 إلى 25 سبتمبر، مما يضطر إسرائيل لرفع درجة استعداد قواتها تحسباً لأي هجوم، ثم يعلن بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتيني حتى جاء يوم 6 أكتوبر فظنت المخابرات الإسرائيلية أنه مجرد تدريب آخر، وبدأ القتال تحت ستار المناورة العسكرية المشتركة (تحرير 23)،
 
ثم استبدلت خرائط التدريب بخرائط العملية (بدر) وكانت البرقيات والرسائل المصرية التي تعرضها المخابرات الإسرائيلية تؤكد أنباء تلك المناورة، مما أدى إلى استبعاد إسرائيل لفكرة الحرب في أكتوبر 1973.
 
وقبيل الحرب بأيام قليلة تم الإعلان عن فتح باب الحجز لرحلات العُمْرة لضباط القوات المسلحة والجنود، وكذا تنظيم دورات رياضية عسكرية مما يتنافى مع فكرة الاستعداد للحرب.
 
الحرص على أن يشاهد الجنود المصريون على الضفة الغربية للقناة صبيحة يوم الحرب وهم في حالة استرخاء وخمول، ويتظاهر بعضهم بمص القصب و صيد الاسماك وأكل البرتقال.
 
ولإخفاء نية القوات البحرية في إغلاق مضيق باب المندب، نشر خبر صغير في شهر سبتمبر عام 1973، عن توجه ثلاث قطع بحرية مصرية إلي أحد الموانئ الباكستانية لإجراء العمرات وأعمال الصيانة الدورية لها، وبالفعل تحركت القطع الثلاث إلى ميناء عدن وهناك أمضت أسبوعاً ثم صدر لهم الأمر بالتوجه إلي أحد الموانئ الصومالية في زيارة رسمية استغرقت أسبوعاً آخر لزيارة بعض الموانئ الصومالية.
 
ثم عادت القطع الثلاث من جديد إلي عدن وهناك جاءتهم الإشارة الكودية في مساء الخامس من أكتوبر 1973 بالتوجه إلى مواقع محددة لها عند مضيق باب المندب في سرية تامة عند نقط تسمح لها بمتابعة حركة جميع السفن العابرة في البحر الأحمر رادارياً وتفتيشها، ومنع السفن الإسرائيلية من عبور مضيق باب المندب طوال الحصار.
 

إجراءات خداع سيادية

تمثلت هذه الإجراءات في اختيار موعد هجوم تحتفل فيه إسرائيل بعيد الغفران اليهودي، وتغلق خلاله المصالح الحكومية بما فيها الإذاعة والتليفزيون، كما اختير على أساس الظروف المناخية والسياسية المواتية، كما كان المجتمع الإسرائيلي منشغل بالمعارك الانتخابية التشريعية.
 
كما تم الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية اللواء حسنى مبارك إلى ليبيا يوم 5 أكتوبر، ثم تقرر تأجيلها لعصر اليوم التالي 6 أكتوبر 1973، ووجه المشير أحمد إسماعيل الدعوة إلى وزير الدفاع الروماني لزيارة مصر يوم الإثنين 8 أكتوبر، وأعلن رسمياً أنه سيكون فى استقباله شخصياً لدى وصوله إلى مطار القاهرة.
 
كما تم الإعلان رسمياً عن الاستعداد لاستقبال الأميرة مارجريت شقيقة ملكة انجلترا صباح الأحد 7 أكتوبر.
 

تأمين تحركات واستعدادات القوات المسلحة

ومن هذه العمليات، كشف شبكات التجسس بما في ذلك شبكة هبة سليم وغيرها، وتحييد دور الملحقين العسكريين وضباط المخابرات بالسفارات بوضعهم تحت رقابة صارمة لمنع وصولهم إلى معلومات تمس سرية الاستعداد للحرب، حتى وصل الأمر إلى ترحيل الملحق العسكري الإسباني مصاباً خلال معركة بالأيدي على متن طائرة إسعاف، لنقله تحركات سلاح الطيران المصري دقيقة بدقيقة.
 

توفير المعلومات السرية عن العدو وتضليله

تم هذه الخطوة عن طريق عملاء جهاز المخابرات العامة ومنهم أشرف مروان، رفعت الجمال “رأفت الهجان”، أحمد الهوان “جمعة الشوان”.
واستخدمت القوات المسلحة اللهجة النوبية لتشفير الرسائل الهامة بين القوات أثناء المعركة لتضليل معترضي تلك الرسائل الذين احتاروا فى معرفة هذه اللغه ولم يستطيعوا فك الشفرة رغم استعانتهم بخبراء العالم .
 
كل ذلك إن دل على شيءت، فإنما يدل على حنكة وذكاء و دهاء القيادة السياسية وعلى براعة المخابرات المصرية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى