تاريخ ومزارات

جامع مبرك الناقة في بصرى الشام ذاكرة المكان وشهادة التاريخ الحي

يقع جامع مبرك الناقة في مدينة بصرى الشام في الريف الشرقي من محافظة درعا، في الزاوية الشمالية الشرقية من سور المدينة، حيث يقف حتى اليوم شاهدا حاضرا على عظمة المراحل التاريخية التي مرت على هذه المدينة العريقة، ويعكس عمقا دينيا وتاريخيا نادرا ارتبط ببدايات الإسلام وبالبيئة الدينية المتنوعة التي احتضنتها بصرى الشام عبر القرون.

تاريخ بناء جامع مبرك الناقة

ترجع جذور بناء جامع مبرك الناقة إلى بدايات العهد الإسلامي بحسب ما تشير إليه عدد من الروايات التاريخية، حيث تؤكد هذه الروايات أن الجامع شيد في الموضع الذي بركت فيه ناقة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أثناء إحدى رحلاته إلى بلاد الشام برفقة عمه أبي طالب، وذلك خلال مروره بمدينة بصرى الشام قبل ظهور الإسلام، ومن هنا جاءت تسميته بجامع مبرك الناقة، ليحمل اسما مرتبطا بحدث روحي وتاريخي ترك أثره العميق في ذاكرة المكان.

الأهمية التاريخية والدينية

يعد أقدم مبنى أثري قائم في سورية أنشئ ليكون مدرسة دينية، وهو ما يمنحه مكانة فريدة في تاريخ العمارة الإسلامية، حيث يلاصق المسجد الزاوية المحصنة من سور المدينة، ويضم جزءا صغيرا يحتوي على نقش كتابي يوناني في حالة متأثرة بالعوامل الجوية، هذا النقش مدمج في الجدار الغربي لغرفة المدفن، ويشير إلى أن معظم السور الروماني القديم قد اندثر مع مرور الزمن.

وتوضح الدراسات الأثرية أن الجامع يتألف من ثلاثة أقسام، لكل قسم منها محراب مستقل، وفي داخله بلاطة حجرية يقال إن ناقة الرسول الكريم ناخت فوقها، وقد أعاد البناؤون تشييد هذه البلاطة في عام 530 هجرية الموافق لعام 1135 ميلادية، كما تعكس الحالة الراهنة للمسجد عناية واضحة به عبر العصور، حيث حافظ على تماسكه المعماري بشكل ممتاز.

ويرتبط الجامع أيضا باستخدامه في القرن التاسع عشر كضريح لمحمد باشا ابن خديوي مصر عباس الأول، الذي توفي عام 1854 ميلادية في منطقة قريبة من مدينة بصرى خلال رحلة دراسية، وهو ما أسهم في الحفاظ على المبنى وتجديد بعض أجزائه، ويظهر الجزء الشمالي من الجامع ملامح واضحة من تقاليد الفن الروماني في البناء والنقوش، بينما خضع الجزء الشرقي لعمليات تجديد متتالية عبر عصور مختلفة، وتحف بالجامع مقبرة قديمة تعود إلى فترات الرومان والأنباط والمسلمين، ما يعكس تعاقب الحضارات على هذا الموقع.

العلاقة الوطيدة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية

يتميز الموقع المحيط بجامع مبرك الناقة بعلاقة تاريخية وإنسانية عميقة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، حيث يجسد هذا المكان حالة نادرة من التلاقي والانسجام الديني، وتجاور المعالم الأثرية لكلا الديانتين في مشهد يلفت أنظار الزوار من مختلف أنحاء العالم.

وتبرز هذه العلاقة من خلال قرب جامع مبرك الناقة والجامع العمري والجامع الفاطمي من جهة، ومن جهة أخرى الكاتدرائية ودير الراهب بحيرا، حيث يشكل هذا التجاور لوحة تاريخية تعبر عن التفاعل الروحي والثقافي الذي شهدته بصرى الشام، فالسائح الذي يزور دير الراهب بحيرا والكاتدرائية يحرص على زيارة جامع مبرك الناقة والجامع العمري، والعكس صحيح.

وتحمل هذه العلاقة بعدا تاريخيا ودينيا عميقا، إذ ارتبط دير الراهب بحيرا ببشارة هذا الراهب بنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عندما زار بصرى الشام، وبني جامع مبرك الناقة في المكان الذي أقام فيه الرسول الكريم بالقرب من الدير، ليصبح الجامع رمزا للتلاقي بين الرسالات السماوية، ودليلا حيا على أن بصرى الشام كانت وما زالت أرضا للتسامح والتعايش، ومقصدا للباحثين عن جذور العلاقة الإنسانية بين الأديان عبر الزمان والمكان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى