تاريخ ومزارات

جامع الفنا ذاكرة مفتوحة لا تنام حكاية الساحة التي تختصر روح مراكش

تعد ساحة جامع الفنا واحدة من أشهر الفضاءات التاريخية في المغرب، إذ تختزن منذ قرون طويلة تعبيرات عميقة عن الثقافة الشعبية المغربية، وتقدم فرجة مفتوحة في وجه الزوار القادمين من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب دورها الحيوي في الحياة التجارية والاقتصادية، وهو ما جعلها فضاء نابضا بالحياة لا ينفصل عن يوميات المدينة.

تاريخ جامع الفنا

تقع ساحة جامع الفنا في قلب المدينة العتيقة لمراكش، عاصمة المرابطين، والمدينة ذات الثقل التاريخي الكبير والإشعاع الثقافي والسياحي الواسع، وتجاور مسجد الكتبية الأثري، أحد أبرز المعالم الإسلامية في المغرب، وتشكل الساحة نقطة مركزية للحركة التجارية، ومعبرا رئيسيا نحو مختلف مفاصل المدينة الحمراء وأسواقها وأحيائها العريقة.

وترجع نشأة ساحة جامع الفنا، بحسب المصادر التاريخية، إلى فترة تأسيس مدينة مراكش سنة 1071 ميلادية على يد الدولة المرابطية، حيث برزت في البداية كفضاء ذي وظيفة تجارية، قبل أن تتوسع أدوارها وتكتسي أبعادا سياسية وثقافية ودينية، خاصة بعد تشييد مسجد الكتبية بجوارها، وهو ما منحها شهرة أوسع ومكانة مركزية في حياة المدينة.

وتتعدد الروايات حول أصل تسميتها، فهناك من يرجع الاسم إلى معنى فناء الدار، أي الباحة المفتوحة التي يجتمع فيها الناس، بينما يربط آخرون التسمية بكلمة الفناء بمعناها المرتبط بالموت، معتبرين أن الساحة كانت مسرحا لتنفيذ أحكام الإعدام في فترات تاريخية سابقة، غير أن الإجماع التاريخي يؤكد أن الساحة لعبت دورا مهما كمكان لاستعراض الجيوش وتنظيمها قبل الانطلاق في الحملات العسكرية.

وتشير بعض المصادر إلى أن ساحة جامع الفنا كانت فضاء لتجمع الجيوش في عهد الدولة المرابطية، ومنها انطلقت حملات عسكرية في اتجاهات متعددة، من بينها حملة يوسف بن تاشفين نحو الأندلس، التي انتهت بانتصاره الشهير في معركة الزلاقة، وهو ما يربط الساحة بصفحات حاسمة من تاريخ الغرب الإسلامي.

ورغم تأكيد وجودها الحيوي في العهد المرابطي، فإن بعض المؤرخين يربطون اسم الفنا بفناء المسجد الأعظم الذي شيده السعديون في حي روض الزيتون خلال القرن السادس عشر الميلادي، وقد ازدادت شهرة الساحة مع مرور الزمن إلى حد أنها تحولت إلى فضاء مفضل لتصوير العديد من الأعمال السينمائية، العربية والأجنبية، لما تختزنه من فرادة بصرية وإنسانية.

وشكل إدراج ساحة جامع الفنا سنة 2001 ضمن قائمة التراث العالمي للإنسانية لدى منظمة اليونسكو محطة مفصلية في تاريخها، باعتباره اعترافا دوليا بقيمتها الثقافية، واحتفاء بفنون الفرجة الشعبية التي تحتضنها، وحماية لذاكرة شفهية إنسانية انتقلت عبر الأجيال، وحافظ عليها رواة وفنانون شكلوا روح المكان.

ولعب الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسولو، الذي اختار الإقامة في مراكش منذ سبعينيات القرن الماضي، دورا محوريا في الدفاع عن الساحة وحشد الدعم الدولي من أجل حمايتها، مؤكدا على ضرورة الحفاظ على هذا الفضاء الإنساني الفريد، ودعم ممارسي فنونه الشعبية في مواجهة تحولات الحياة الحديثة وضغوطها.

وتعد ساحة جامع الفنا اليوم علامة سياحية عالمية، وواحدة من أشهر الفضاءات الإنسانية المفتوحة التي لا تزال تنبض بالحياة، حيث تقدم على مدار اليوم وحتى ساعات متأخرة من الليل عروضا متنوعة لفنون الفرجة الشعبية، من الغناء الشعبي، والاستعراضات الرياضية والبهلوانية، إلى الحكايات التراثية، وفنون ترويض الأفاعي والقرود، وغيرها من العروض التي تستقطب الزوار حسب اهتماماتهم وميولهم.

وبموازاة هذا النشاط الفني المتواصل، تزدهر داخل الساحة وحولها مهن تقليدية متعددة، مثل نقش الحناء، وبيع المأكولات الشعبية التي تشتهر بها مراكش ومختلف مناطق المغرب، مما يمنح المكان طابعا احتفاليا ومعيشيا متكاملا.

وتنظم عروض الساحة في شكل حلقات دائرية تحيط بالراوي أو الفنان أو البهلوان، وهو ما يعرف محليا باسم الحلقة، وتشكل هذه الحلقات فرصة فريدة لاكتشاف ثراء وتنوع الموروث الثقافي الشعبي المغربي، بأبعاده العربية والأمازيغية والصحراوية والأفريقية، في لوحة إنسانية نادرة.

وقد وصف الكاتب خوان غويتيسولو ساحة جامع الفنا بأنها فضاء لا نظير له في العالم، مؤكدا أن القضاء عليها قد يكون ممكنا بقرار إداري، لكن استنساخ ساحة مماثلة لها بقرار من هذا النوع يظل أمرا مستحيلا، لما تحمله من روح متجذرة في التاريخ والناس.

وألهمت الساحة عبر تاريخها الطويل العديد من الشعراء والروائيين الذين خلدوا هذا الفضاء في نصوصهم، كما صنفت ساحة جامع الفنا ضمن ثاني أفضل عشر ساحات عالمية، بحسب موقع adioso.com المتخصص في السياحة والسفر، لتبقى شاهدا حيا على قدرة المكان على مقاومة الزمن، وحفظ الذاكرة، وصناعة الفرجة والدهشة في قلب مراكش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى