معركة البلاط الشهيرة.. تفاصيل المواجهة التي أوقفت الفتوحات الإسلامية في قلب أوروبا

في زمن ارتفعت فيه رايات الفتح فوق أرض الأندلس، وبعد أن استقرت الدولة الإسلامية في إسبانيا، توجهت أنظار القادة نحو قلب أوروبا، مدفوعة بحلم عظيم لتوسيع رقعة الفتوحات من جبال البرانس حتى أسوار القسطنطينية، كما كانت تلك الحقبة مليئة بالبطولات والتضحيات، حيث قاد السمح بن مالك الخولاني والي الأندلس بتكليف من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أولى الحملات ما بين عامي 719 و721 ميلادي، وتقدم جيشه حتى اجتاح مدينة أربونة ووصل شمالًا إلى تولوز المعروفة آنذاك بطولوشة، لكن القدر حال دون تحقيق النصر حين استشهد القائد، فتوقفت الحملة تاركة خلفها حلمًا لم يكتمل.
قصة معركة البلاط الشهيرة
تجددت الآمال سريعًا، ففي عامي 724 و725 ميلادي قاد عنبسة بن سحيم الكلبي حملة جديدة عبرت جبال البرانس بسهولة، ونجحت في السيطرة على مدن مثل أوزه وفالنسيان، ووصلت قواته إلى ضفاف نهر السين لتقترب من حصن لودون على مسافة قصيرة من باريس، لكن إصاباته البالغة خلال المعارك أنهت حياته، لتتوقف الحملة عند تلك النقطة التي عرفت بأنها أبعد مدى وصل إليه المسلمون في بلاد الغالة.
ومع حلول عام 730 ميلادي عاد عبد الرحمن الغافقي ليتولى قيادة الأندلس من جديد بعد فترة ولاية قصيرة أعقبت استشهاد الخولاني، وفي عام 114 هجري جمع الغافقي جيشًا بلغ خمسين ألف مقاتل، فعبر جبال ألبرت وفتح مدينة آرل المطلة على البحر المتوسط، ثم اجتاز البرانس وسيطر على مدن جنوب فرنسا مثل ليون وسانس وصولًا إلى أقطانيا، حيث ألحق هزيمة قوية بالقائد أودو وأثبت تفوق الجيش الإسلامي.
نصب المسلمون معسكرهم بين بواتييه وتور دون أن يدركوا اقتراب جيش شارل مارتل عبر نهر اللوار، وحين حاول الغافقي عبور النهر فوجئ بقوات مارتل الضخمة فتراجع إلى السهل حيث خيم سابقًا هناك، قرب طريق روماني قديم في منطقة عرفت بالبلاط، التقى الجيشان في مواجهة حاسمة.
اندلعت المعركة في أواخر شعبان 114 هجري واستمرت تسعة أيام حتى بدايات رمضان، كما أظهر المسلمون شجاعة وبسالة واضحة في الأيام الأولى، لكن ثقل الغنائم التي جمعوها أعاق حركتهم وفي اليوم العاشر شن فرسان الفرنجة هجومًا مباغتًا اخترقوا به الصفوف وقسموا الجيش إلى نصفين متجهين نحو الغنائم، وهو ما أحدث حالة اضطراب كبيرة، وأثناء محاولة الغافقي استعادة السيطرة أصابه سهم قاتل أنهى حياته.
بعد استشهاد القائد انتشرت الفوضى بين الجنود، وتكبدوا خسائر جسيمة قبل أن ينسحبوا ليلًا نحو سبتمانيا تاركين الغنائم خلفهم، وفي الصباح لم يجد الفرنجة أثرًا لهم فظنوا أنها حيلة وانتظروا يومًا كاملًا قبل دخول المعسكر المهجور، ليعثروا على غنائم وفيرة.
كانت معركة البلاط نقطة تحول غيرت مسار التاريخ، إذ أنهت محاولات الأمويين للتوغل في فرنسا وتركت أثرًا عميقًا لم يتوسع المؤرخون المسلمون في ذكره كثيرًا وكأنه جرح لم يندمل، وعلى الجانب الآخر توحدت إمبراطورية الفرنجة خلف جبال البرانس لتتحول إلى قوة صاعدة شكلت تهديدًا كبيرًا للوجود الإسلامي في الأندلس حتى انتهى بعد سبعة قرون من تلك المواجهة المصيرية.



