الربابة والسمر.. عادة متوارثة توحد قبائل العرب في أسوان
أسماء صبحي – تعد محافظة أسوان الواقعة في أقصى جنوب مصر من أغنى المناطق تراثًا وثقافة. إذ تحتضن مزيجًا فريدًا من العادات العربية والنوبية والأفريقية. ما يجعلها متحفًا حيًا للهوية المصرية المتعددة. ومن بين أبرز ملامح الحياة الاجتماعية في قبائل العرب بأسوان تبرز عادة “جلسات الربابة والسمر”. والتي لا تزال تمارس حتى اليوم، كرمز للترابط القبلي، والتقاليد الأصيلة، وتوثيق التاريخ الشفهي للأجيال.
أصول عادة الربابة والسمر
عادة السمر هي جلسات ليلية تقام عادة بعد صلاة العشاء. حيث يتجمع رجال القبيلة كبارًا وصغارًا في ساحة مفتوحة غالبًا بجوار منازل العائلات الكبرى أو في مجلس “العمد” و”المشايخ”. ويتبادلون الحكايات، الأشعار، والأخبار. فوي هذه الجلسات تعزف الربابة، ويقال الشعر وتروى قصص البطولة وتحل الخلافات وتتخذ القرارات الاجتماعية.
تعود هذه العادة إلى أصول القبائل العربية التي استقرت في أسوان منذ مئات السنين. مثل قبائل العبابدة والبشارية والجهينة، حيث كانت الربابة وسيلة لنقل الشعر والملاحم، في ظل غياب الكتابة، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراثهم.
الربابة: آلة تحكي التاريخ
الربابة هي آلة وترية بدائية الصنع، لكنها شديدة التأثير. تتكون من عود خشبي مشدود عليه وتر واحد أو اثنان، وتغطى بجلد حيوان. وهي ليست مجرد أداة موسيقية بل “صوت القبيلة” ومن خلالها يقال الشعر العربي البدوي الذي يروي تاريخ القبائل، أمجاد الفرسان، وعادات الصلح والثأر والكرم.
يقول الشاعر الشعبي سعد أبو العلا، من قبيلة العبابدة: “الربابة عندنا مش بس آلة، دي وسيلة لحفظ تاريخ القبيلة وشجاعة أبطالها. وفي جلسات السمر بنغني بيها عن الغربة، والحب، والكرامة”.
الوظائف الاجتماعية لعادات السمر
لا تعد جلسات السمر مجرد طقس ترفيهي، بل وسيلة فعالة لنقل الرواية الشفوية من جيل إلى آخر. ويروى فيها تاريخ المعارك، سير الأبطال، وأصول العائلات، بطريقة تحافظ على الهوية الجماعية.
وكثيرًا ما تكون جلسات السمر مناسبة لحل النزاعات البسيطة بين أبناء القبيلة. إذ يستدعى فيها الوجهاء وتناقش المشكلات ويُتفق على حلول وسط وهو ما يعرف بـ”التحكيم العرفي”.
كما توفر جلسات السمر فرصة للقاءات الاجتماعية اليومية. حيث يلتقي الأهل والجيران ويتبادلون الأخبار والضحك والمواقف. مما يقوي الأواصر الاجتماعية في مجتمع لا زال يحافظ على الروح الجماعية.
ومن خلال الشعر والربابة، ينشأ الأطفال على حب اللغة العربية الفصحى والمحكية. ويكتسبون مفردات شعرية غنية، ويطورون مهارات الإلقاء والتعبير.
عادات مصاحبة للسمر
غالبًا ما تقدم القهوة العربية خلال السمر ويشعل الحطب في “الوجار”. كما تقدم أحيانًا أطباق بسيطة مثل التمر، أو المخبوزات المحلية. ويراعى في الجلسة التوقير لكبار السن ويبدأ الحديث عادة بآيات قرآنية أو أدعية.
في بعض المناسبات، مثل عودة أحد أفراد القبيلة من الحج، أو زواج أحد الشباب. تتحول جلسات السمر إلى احتفالات تمتد لساعات ويدعى فيها الشعراء الشعبيون والربابة لتقديم “عرضة” شعرية.
استمرارية الربابة والسمر في العصر الحديث
رغم التحولات الاجتماعية والتكنولوجية، لا تزال هذه العادة حية في قرى ومناطق متعددة في أسوان. خاصة في المناطق الريفية مثل بلانة، وادي النقرة، أبو سمبل، وأبو الريش.
وقد قامت مؤسسات ثقافية مصرية بتوثيق هذه العادات ضمن مبادرات حفظ التراث غير المادي. منها ما قامت به الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي خصصت جزءًا من أنشطتها في فرع ثقافة أسوان لتقديم أمسيات شعرية وموسيقية تحاكي جلسات السمر القديمة.
وقال الدكتور أحمد عبد الدايم، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة أسوان، إن عادة الربابة والسمر ليست مجرد طقس ترفيهي. بل هي مؤسسة اجتماعية تعبر عن بنية القبيلة وتحمل في طياتها أدوات التواصل والتربية وحفظ الموروث.



