حوارات و تقارير

حصن بارليف الذي بلع المليارات وسقط أمام خراطيم الماء

في قلب الصحراء على الضفة الشرقية لقناة السويس، حيث تمتزج رمال سيناء بمياه القناة، ارتفع خط بارليف كأنه قلعة صلبة، أو وحش خرساني يظن نفسه حارسًا لأحلام السيطرة.
جاء هذا الخط نسبة إلى حاييم بارليف، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بعد نكسة سبعة وستين، وكان مشروعًا عسكريًا ضخمًا أرادت به إسرائيل أن تصنع أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث.

قصة خط بارليف

لم يكن مجرد خندق أو سور عادي، بل مدينة حربية كاملة، امتدت لمسافة مئة وسبعين كيلومترًا من خليج السويس في الجنوب إلى البحر المتوسط في الشمال.
أحاطته موانع طبيعية صنعت حوله هالة من المستحيل، فجعلت تطويقه أشبه بالحلم.

تخيل المشهد، اثنان وعشرون موقعًا دفاعيًا وست وثلاثون نقطة حصينة، كل واحدة منها بمثابة قلعة صغيرة من الإسمنت المسلح، مدعومة بكتل خرسانية وقضبان السكك الحديدية، تصمد أمام القصف الجوي والمدفعي، بل وحتى القنابل التي يزيد وزنها عن ألفي رطل.

تحت الأرض، كانت هناك شبكة معقدة من الخنادق والملاجئ، تربط بين الدشم التي فتحت فتحاتها كعيون مترقبة، وفيها رشاشات ومدافع مضادة للدبابات وهاونات.

كل نقطة كانت معدة للدفاع الدائري، وكأن كل واحدة تقول، حتى لو سقط الجميع، أنا صامدة.

خط بارليف لم يكن مجرد تحصينات، بل منظومة كاملة محاطة بحقول ألغام وأسلاك شائكة كثيفة، ووراءها خطان من الدشم المنفصلة حيث تتمركز الدبابات والمدفعية الميكانيكية، مستعدة لصد أي محاولة عبور.
وأمام كل ذلك، قناة السويس تقف كحاجز مائي فريد من نوعه، بتيارات متقلبة وسرعات متفاوتة، جعلت كبار العسكريين يصفونها بأنها أعقد مانع مائي في العالم.
وخلف القناة، ساتر ترابي ضخم مليء بالألغام والفخاخ، ينتظر أي جندي أو مدرعة تحاول التقدم.

التفاصيل كانت صادمة، كل نقطة حصينة مرتبطة بالأخرى بشبكة اتصالات سلكية ولاسلكية، بل إن بعض الخطوط كانت تصل مباشرة إلى داخل إسرائيل، حتى إن الجندي وسط سيناء يمكنه الاتصال بمنزله في تل أبيب.
تكلفة هذا الخط بلغت خمسة مليارات دولار، مبلغ ضخم صُب بالكامل في بناء هذا الجدار العسكري.

خط بارليف اعتُبر وقتها الأقوى في العالم، لأنه تفادى أخطاء الخطوط الدفاعية القديمة مثل خط ماجينو الفرنسي أو خط سيجفريد الألماني، اللذين سقطا بسبب ضعف الأطراف.

أما بارليف، فكان محميًا من البحر المتوسط شمالًا وخليج السويس جنوبًا، ما جعله شبه مستحيل الالتفاف عليه.

كما أنه لم يكن مجرد نسخة من حائط الأطلسي الذي لم يكتمل، بل تم إنشاؤه وتطويره خلال فترة وقف إطلاق النار بعد حرب الاستنزاف، وأضيفت إليه تحسينات متواصلة حولته إلى درع معقد وعصري.

لكن رغم هذه القوة، التاريخ لا يعترف بالحصون التي لا تُقهر، في أكتوبر عام 1973، وقف الجيش المصري أمام هذا الحاجز، وبعزيمة صلبة وأدوات بسيطة، كتب قصة جديدة عنوانها، الإرادة لا يعوقها خرسانة ولا مليارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى