معركة البويب.. كيف انتقم العرب من هزيمتهم وصنعوا يوم الأعشار الذي غير تاريخ العراق

في رمضان من السنة الثالثة عشرة للهجرة، اندلعت واحدة من أكثر المعارك دموية وحسمًا على أرض العراق قرب الحيرة، حملت اسم البويب، وكانت النيران المتقدة تحت الرماد بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر، لكن ما لم يتوقعه الفرس أن نار الهزيمة ستعود لتحرقهم بأضعاف ما أشعلوا. اجتمع المسلمون بقيادة المثنى بن حارثة، متحدين كقبضة واحدة، بينما احتشد جيش الفرس بقيادة مهران بن باذان، ظنًا منهم أن النصر سيكون تكرارًا لما حدث على الجسر، لكنهم لم يدركوا أن الكارثة هذه المرة ستكون من صنعهم.
تحرك عمر بن الخطاب فور سماعه بالهزيمة السابقة، وحشد القبائل لنصرة المثنى، أرسل تعزيزات ضخمة من خيرة المقاتلين، فجاء جرير بن عبد الله البجلي ومعه بجيلة، وتبعه هلال بن علقمة، وعبد الله بن ذي السهمين، ثم التحق بهم ربعي بن عامر وعمر بن ربعي بن حنظلة، فأصبحت الأرض تهتز من وقع أقدام المجاهدين. أما رستم قائد الفرس، فجمع جيشًا جرارًا بقيادة مهران الهمداني، وأرسلهم ليحسموا المعركة في البويب، تلك الرقعة القريبة من الكوفة، حيث كان المثنى ينتظرهم بحنكة الصقر وتخطيط القائد الذي لا يكرر الخطأ مرتين.
وصل جيش الفرس إلى الضفة المقابلة للفرات، وطلب مهران من المثنى أن يحدد من يعبر، فرد عليه بثقة القائد المنتصر قائلًا اعبروا إلينا، وفعلاً نزل الفرس إلى الضفة الأخرى بثلاثة صفوف مزينة بالفيلة، تعلوهم أصوات الضجيج والغرور، لكن المثنى أمر جيشه بالصمت التام، كأنما يسدل عليهم ستارًا من الغموض والتحدي، ثم أمرهم بالإفطار ليزدادوا قوة، وبدأ يجول بين الصفوف، يرفع المعنويات، ويوقظ فيهم روح الجهاد، فتوحدت القلوب تحت رايته، واشتعلت الأرض عزيمة.
أعلن المثنى أنه سيرفع ثلاث تكبيرات استعدادًا للهجوم، وفي الرابعة ينطلق السيف، لكن ما لبث الفرس أن باغتوا المسلمين عند التكبيرة الأولى، فاشتعل القتال قبل أوانه، وتلاحم الصفان في معركة دامية، لاحظ المثنى خللًا في أحد الصفوف، فأرسل إليهم ينذرهم ويشد من عزيمتهم، حتى عاد التماسك أقوى من قبل، وبقي يحثهم على الثبات لنصرة دين الله، لا لينجو فقط بل لينتصر ويمهد للأمة مجدها.
اشتد القتال، فتقدم المثنى وأمر بفرقة خاصة تحمي ظهره من التفاف الأعداء، ثم اخترق ميمنة الفرس حتى وصل مهران نفسه، ودارت بينهما مواجهة عنيفة، سقط فيها مسعود بن حارثة شقيق المثنى شهيدًا، لكن القائد لم يهتز، بل نادى في جيشه قائلًا لا تخافوا، فهكذا يموت الأبطال، فازدادت الأرواح اشتعالًا، وتقدّم المنذر بن حسان وطعن مهران، ثم جاء جرير فقطع رأسه، عندها انهار جيش الفرس كأنما صعقتهم الصدمة.
هرب الفرس نحو الجسر، لكن المثنى سبقه إليهم وسيطر عليه، فحاصرهم بين سيف المسلمين وماء الفرات، وبدأت المجزرة، حتى غرق وقتل منهم عدد مهول قيل إنه بلغ مئة ألف، فأطلق المسلمون على هذا اليوم اسم يوم الأعشار، لأن كل مقاتل قتل عشرة من الفرس، لتتحول الهزيمة السابقة إلى نصر يزلزل أرض العراق.
أدرك الفرس حينها أن نصرهم في الجسر لم يكن إلا خدعة مؤقتة، وأن أمامهم قوة صاعدة لا يمكن تجاهلها، وأن المثنى بن حارثة ليس مجرد قائد عادي، بل هو من يصنع المعركة وينتصر بها رغم الجراح والخسائر، لتكون البويب البداية الحقيقية لفتوحات العراق واندحار الفرس إلى الأبد.