الإنكشارية من قوة ضاربة إلى مذبحة دموية

لعبت فرقة الإنكشارية دورًا حاسمًا في بناء الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت العمود الفقري للجيش العثماني وسر انتصاراته العسكرية. لم يكن أفرادها من الأتراك، بل ضمت جنودًا من أصول أوروبية مثل اليونانيين والصرب والألبان، الذين جرى انتزاعهم من ديارهم بعد خضوع بلادهم للعثمانيين. أسسها السلطان أورخان خان عام 1363، بهدف إنشاء جيش محترف لا يعتمد على الفرسان الأتراك الذين كانوا يقاتلون للغنائم ثم يعودون إلى أراضيهم، فكان بحاجة إلى قوة عسكرية تدين له بالولاء المطلق، وهو ما وجده في الإنكشارية التي تطورت لاحقًا على يد ابنه.
ضريبة الغلمان وبناء جيش الإنكشارية
بدأت نواة الإنكشارية بتجنيد أسرى الحرب والأيتام والمشردين، لكن الحاجة إلى المزيد من الجنود دفعت الدولة إلى فرض ضريبة الغلمان، المعروفة بـ”الدوشيرمة”، حيث كان ممثلو السلطان يجمعون الأطفال من الأسر المسيحية الخاضعة للحكم العثماني، بشرط ألا يكون الطفل وحيد والديه، ثم يُرسل هؤلاء الأطفال إلى عائلات تركية لتعلم اللغة والعادات الإسلامية قبل نقلهم إلى معسكرات التدريب في إسطنبول. كان يُطلق على كل منهم لقب “ينى جى عجمى أوغلان”، أي الجندي المستجد الغريب، ليبدأ مرحلة قاسية من الإعداد العسكري.
تدريب قاسي وامتيازات مغرية
خضع الأطفال لتدريب عسكري صارم شمل تقنيات القتال واستخدام الأسلحة النارية، مع فرض عقوبات شديدة تتراوح بين الجلد والسجن، وأحيانًا الإعدام أو الإخصاء. لكن مقابل هذه القسوة، حصل الجنود على امتيازات كبرى، مثل رواتب عالية وإعفاء من الضرائب، كما تمتعوا بحصانة من القضاء المدني، مما عزز انتماءهم للجيش بدلًا من عائلاتهم الأصلية. في البداية، شكلوا قوة قتالية لا تُقهر، لكن هذه العزلة والامتيازات حولتهم مع الوقت إلى خطر على الدولة نفسها.
معارك فاصلة صنعت مجد الإنكشارية
شاركت الإنكشارية في انتصارات عثمانية كبرى غيرت مجرى التاريخ، من أبرزها فتح القسطنطينية عام 1453، حيث لعبوا دورًا رئيسيًا في اختراق أسوار المدينة البيزنطية
معركة جالديران عام 1514 ضد الصفويين، حيث استخدموا المدافع بكفاءة غير مسبوقة
معركة موهاج عام 1526، التي أذهلت الأوروبيين بقدرتهم الفائقة على القتال بالبنادق الدقيقة.
اعتمد العثمانيون عليهم كأساس في المعارك الكبرى، فكانت سرعتهم في الهجوم واستخدامهم للأسلحة النارية سببًا في تفوق الجيش العثماني على خصومه.
من قوة ضاربة إلى جيش فاسد
مع مرور الزمن، بدأ الإنكشارية يدركون نفوذهم وقوتهم داخل الدولة، وبدلًا من أن يظلوا أداة في يد السلاطين، تحولوا إلى قوة مستقلة تتدخل في السياسة وتفرض مطالبها بالقوة. في عام 1449، نظموا تمردًا للمطالبة بزيادة رواتبهم، واستمر تمردهم في عصور لاحقة، حتى أصبحوا عبئًا على الدولة بدلًا من أن يكونوا درعها الحامي. زاد نفوذهم إلى درجة أنهم كانوا قادرين على عزل السلاطين وتنصيب آخرين وفق مصالحهم، مما جعلهم خطرًا يهدد استقرار الدولة العثمانية.
النهاية الدامية للإنكشارية
بحلول القرن التاسع عشر، لم يعد وجود الإنكشارية يخدم مصالح الدولة، بل أصبح عقبة أمام الإصلاحات العسكرية، فقرر السلطان محمود الثاني التخلص منهم نهائيًا. في عام 1826، عندما رفضوا الخضوع لأوامره، أمر بحصارهم في ميدان الخيل بإسطنبول، حيث حشد المدفعية ضدهم في واحدة من أكثر الأحداث دموية في التاريخ العثماني، وأسفر الهجوم عن مقتل ستة آلاف جندي، لتنتهي بذلك أسطورة الإنكشارية التي بدأت كقوة ضاربة وانتهت بمذبحة وضعت حدًا لنفوذهم.