وطنيات

المارد قصة بطولات على أرض سيناء – الدكتور محمود حمودة الأزعر

لُقِّب بالمارد المصري السيناوي لأنه كان عصيا على الاحتلال الإسرائيلي بنظامه وقواعده

محمود حسن الشوربجي

في البداية من هو البطل الدكتور محمود حمودة الأزعر؟

اسمه الدكتور محمود أحمد محمود حمودة عبد الرحمن الأزعر. من مواليد مدينة العريش عاصمة محافظة شمال سيناء، ولد في يوم 22 من ديسمبر 1941م، وتوفى فجر يوم الأربعاء الموافق 23 ديسمبر 2020م. ليتمم أعوام عمره بالتمام والكمال، وهو من عائلة الأزعر التي تسكن مدينة العريش.

 

الدكتور الصيدلي صاحب أول صيدلية في سيناء

لم يخطر في بال الدكتور محمود أحمد حمودة الأزعر، أن القدر الذي جعل منه أول طالب سيناوي يلتحق بكلية الصيدلة بجامعة القاهرة عام1958م هو نفس القدر الذي سيسجل اسمه على رأس قائمة الأبطال الذين أعادوا صياغة تاريخ سيناء عقب نكسة 1967م.

رحلته بدأت مع أولى خطواته لحفظ القرآن الكريم في كتاب الشيخ حمدان الرطيل المعروفة باسم “الشيخ جاد”، وحصل على الشهادة الابتدائية والإعدادية من مدرسة التعاون الإعدادية بالعريش عام 1954م، ثم حصل على شهادة الثانوية العامة من مدرسة العريش الثانوية عام 1958م، كان أول طالب من سيناء يلتحق بكلية الصيدلة جامعة القاهرة عام 1958م، تخرج منها وحصل على بكالوريوس الصيدلة والكيمياء الصيدلة في مايو 1964م. تم تكليفه من قبل وزارة الصحة بالعمل في الصحة المدرسية بسيناء عام1965 ثم إلغاء التكليف بقرار من المحافظ بغرض إنشاء أول صيدلية خاصة بالعريش عام 1966م.

 

عقب نكسة 1967م أصبحت صيدلية «ابن سيناء» التي تقع في شارع23 يوليو مكانا لاجتماعات الأحرار من أبناء سيناء، لدراسة ما يمكن عمله من أجل تحرير الأرض والعرض، وكانت البداية تلقائية كما يقول الدكتور محمود حيث تكونت مجموعة تعمل على كتابة المنشورات ضد الاحتلال، لرفع الروح المعنوية للمواطنين، إلا أنها تفككت بعد فترة عمل قصيرة بسبب ملاحقة قوات الاحتلال لأفرادها.

الصيدلي الذي اشتهر بين الجميع بالخلق الرفيع والتواضع لدرجة الخجل، كان قليل الكلام كثير النشاط في نفس الوقت، وهذا ما دفع مندوبا أتى من القاهرة ليطلب منه التعاون مع القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية لجمع المعلومات عن قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك ضرورياـ كما يقول الدكتور ـ حيث امتلأت جنبات سيناء بجماعات نضالية غير منظمة، فأرادت القيادة المصرية تحقيق نوع من السيطرة لتعظيم نتائج العمليات ضد الاحتلال.

 

خريطة سري للغاية

في البداية شارك الدكتور في أكثر من عملية لإجلاء الجنود المصريين الذين تاهوا في الصحراء وتوصيلهم بأمان للضفة الأخرى من القناة، ثم بدأ في تنفيذ بعض المهام الكبيرة في جمع المعلومات عن أعداد جنود الاحتلال والمعدات الحربية وأعدادها، واتجاهات التحرك وأماكن التواجد، ثم خطط بذكاء لاختطاف أحد العملاء بالعريش، وتسليمه للقوات المصرية غرب القناة وتوالت التكليفات حتى تمكن الدكتور من إحضار خريطة أعدتها إسرائيل لحدودها الغربية في سيناء، بعد أن سافر إلى القدس وعاونه أحد الأشقاء الفلسطينيين من عرب خان يونس، وكانت الخريطة تشير ـ كما يقول ـ إلى أن حدود إسرائيل المستقبلية تمتد من العريش شمالا حتى رأس محمد جنوبا.

6 حقن و12 كبسولة!

مازال الدكتور على عادته، يتأمل كثيرا ويتكلم قليلا، وفي كل الأحوال يستمع باهتمام، وفي صباح الخميس4 أكتوبر1973 دخل الصيدلية أحد المرضى يحمل روشتة سلمها للدكتور، الذي انشغل بقراءتها حتى بدت الجدية على ملامحه، وقضى وقتا غير قصير بحجة تفسير ما فيها، رغم أنها لم تكن تحتوي إلا على تركيبة لنوعين فقط من الأدوية هما 6 حقن فيتامين ب المركب و12 كبسولة مضاد حيوي كلورو ما ليستين، وكان هناك خط صغير تحت رقم 6 وحرف ب ورقم 12 وفهم الدكتور الشفرة، وهي أن الهدف126 ب قد تقرر تدميره، فسأل المريض: متى تريد هذا الدواء فأجاب أمام رواد الصيدلية ومنهم جندي إسرائيلي.. الليلة، ومرت عدة دقائق قبل أن يومئ برأسه بما يفيد الموافقة، ولم يكن الهدف126 ب سوى محطة محولات كهربائية تشتمل على 3 محولات ضخمة، وتكمن أهميتها في أنها تمد معسكرات الجيش الإسرائيلي، ومخازن الأطعمة بالتيار الكهربائي، كما يعتمد عليها مركز التصنت الإسرائيلي على ساحل البحر بالعريش بما يضمه من أجهزة إلكترونية حديثة تسمح لجنود الاحتلال بالاستماع إلى الإشارات المتبادلة بين وحدات الجيش المصري على الجبهة وقياداتها.

 

المخبأ السري

خلف رفوف الأدوية وداخل مخبأ سري تم بناؤه بعناية فائقة ترقد المفجرات والأقلام الزمنية إلى جوار العقاقير في كراتين كبيرة يتم استخدامها في تجهيز العبوات الناسفة في منزل عبد الحميد الخليلي أحد أبطال المجموعة ثم يجري نقلها في وضح النهار إلى حيث الهدف، وفي الوقت المحدد قام محمد عبد الغني السيد وعدنان شهاب البراوي بالإجهاز على الحراس الإسرائيليين الثلاثة وفي الحادية عشرة مساء ارتجت سماء العريش وأضاء ليلها على انفجار مروع اختفت على إثره المحطة من الوجود.

 

أما في يوم7 أكتوبر1973م، فقد أقدمت المجموعة على نسف كوبري السكة الحديد الممتد من إسرائيل إلى الجبهة في سيناء، حيث تم وضع 6 عبوات شديدة الانفجار تحت الدعائم الخرسانة للكوبري الذي انفجرت أركانه في الثامنة والنصف مساء.

 

وبينما كان الجيش الإسرائيلي يواجه موجات العبور على شاطئ قناة السويس، كانت العمليات التي ينفذها الأبطال خلف الخطوط بفدائية لا مثيل لها وتصيبه بالهلع، وكأنها طعنات سامة في ظهره داخل سيناء حيث تتجمع شرايين الاتصالات بين القادة والجنود، حيث قامت المجموعة التي تضم إلى جانب الدكتور محمود الحاج صباح الكاشف وعبد الحميد الخليلي وسعد جلبانه وعدنان شهاب ومحمود العزازي، بنسف كابل الاتصالات السلكية الرئيسي في أربع مناطق متباعدة حتى يتعثر إصلاحه.

وفوجئت قوات الاحتلال التي فقدت توازنها على الجبهة في الأيام الثلاثة الأولى من حرب أكتوبر بانقطاع الإمدادات وفقد الاتصالات وإظلام مراكز القيادة.

 

الأبطال الحقيقيون لا يتحدثون عن بطولاتهم

ورغم مرور47 عاما على انتهاء حرب1973م، فإن بعض التفاصيل التي تم إلقاء الضوء عليها في الصحافة الإسرائيلية والمؤلفات العربية والأجنبية لا يمكن إنكارها.

ففي مساء7 أكتوبر تلقت أجهزة المخابرات المصرية برقية من أحد المراكز في خان يونس تشير إلي مرور قافلة عسكرية إسرائيلية مكونة من كتيبة مشاة ميكانيكي، وكتيبة مدفعية ميدان، وكتيبة مشاهد مدرعة وسريتي دبابات خفيفةamx و3 سرايا شيرمان م.500.. وفي الواحدة والنصف من صباح 8 أكتوبر وردت للأجهزة برقية مشفرة، من مركز آخر بالعريش تفيد بمرور سرية الدبابات الخفيفة وبعد5 ساعات أفاد مركز ثالث على مسافة 60 كم من الجبهة في المحور الأوسط بمرور كتيبتي المشاة ومدفعية الميدان، أما الدبابات فلا أثر لها، وهنا صدرت الأوامر لسلاح الطيران المصري للبحث عن سريتي الدبابات وكتيبة المشاة المدرعة، ودُهش الطيارون لأن الأوامر تضمنت أعداد الدبابات وأنواعها بالتحديد، وعندما عثرت أفواج الطائرات السوخوي المصرية على الأهداف قضت عليها في معركة قصيرة وهو ما أكده كتاب «المفاجأة» الذي أعده ضابط المخابرات المصري ماهر عبد الحميد حول بطولة مراكز الاستخبارات التي يديرها أبناء سيناء خلف خطوط العدو.

 

في الغرفة السرية داخل صيدلية ابن سيناء، يتظاهر الدكتور بتجهيز الدواء للمرضى، بينما زميل له في المجموعة يجلس خلف الجدران حيث مركز الاتصالات ليرسل عبر اللاسلكي المعلومات إلى القيادة المصرية.

وربما لا يعلم أحد، وهذا السر ينشر لأول مرة، فقد تلقت المخابرات المصرية أول المعلومات عن حجم الإمدادات الأمريكية المباشرة للقوات الإسرائيلية داخل سيناء حيث تضمنت البرقية الأولى لمركز الاتصالات بالصيدلية خبرا عن أعداد هائلة من طائرات الهليوكوبتر البيضاء القادمة من جهة البحر لتهبط في مطار العريش لتكتشف أجهزة المخابرات المصرية صحة الإشارة بعد حصولها على معلومات إضافية من مراكز أخرى، وهو ما أكد مشاركة الأسطول السادس الأمريكي في الحرب.

 

ليلة القبض على المجموعة

في سادس أيام الحرب، نقلت المجموعة مركز اتصالاتها من الصيدلية إلى منزل آخر بنفس الشارع، حيث تم إخفاء جهاز اللاسلكي في تجويف بأحد الجدران، وجهاز آخر صغير تم وضعه أسفل السور الخارجي للمنزل، وتمكنت القوات الإسرائيلية من معرفة مكانهما في مساء الخميس8 نوفمبر1973م، بعد وقف القتال بأسبوعين فوجئ الدكتور بضباط المخابرات الإسرائيلية يقتحمون الصيدلية في مساء الأحد11 نوفمبر ليلقوا القبض عليه واقتياده إلى سجن غزة، بعد أن تعرفوا على جميع أفراد المجموعة، الجميع تعرضوا للتعذيب بالماء والكهرباء، حتى صدرت ضدهم لائحة الاتهام التي تتضمن توجيه تهم التجسس الخطير وجمع المعلومات السرية في سيناء وحيازة مواد متفجرة وألغام، والاتصال بضابط المخابرات المصري محمد اليماني الذي أذاق جيش الاحتلال طعم المرارة، ولم يعثروا عليه أبدا وقضت المحكمة الإسرائيلية بعقوبة السجن المؤبد على الدكتور وزملائه.

 

رسالة من داخل المربعاة

ذهبت للحاج محمود أبو عيطة في منزله بالمساعيد حيث عرفت أنه أحد المناضلين الذين تعرضوا للسجن عدة مرات، التقى في إحداها بالدكتور محمود، فأكد لي أنه عندما اشتد عليه التعذيب بعد أن اتهم بتفجير أتوبيس إسرائيلي وقتل4 جنود، ثم نقله إلى مكان داخل السجن يطلق عليه اسم «المربعاه» والتي يحتجز فيه السجين الذي يوشك على الموت بسبب التعذيب، وأضاف: عندما ألقاني الجندي الإسرائيلي على سرير وأفقت من الغيبوبة فوجئت بشخص يرقد على سرير مجاور فلم أحدثه حتى قال لي هل أنت من العريش؟ فقلت نعم، فقال لي أنا الدكتور محمود الأزعر، وكانت تبدو عليه آثار التعذيب الشديدة، يقول الحاج أبو عيطة، كنت أسمع عنه ولكنني لم أراه من قبل، حتى طلب مني أن أبلغ جميل الأزعر برسالة شفوية، حاولت أن أعرف مضمون الرسالة لكنه رفض كما رفض الدكتور من قبل أن يتكلم بشأنها ولكنني فهمت أنها تتعلق بالعمل الفدائي فزاد إكباري للرجلين.

 

المارد المصري السيناوي والد الصيدلي بهاء الدين “رحمة الله عليه” والمهندس تهامي ونقيب الصيادلة محمد الهادي وإلهام وإيمان مدرسات اللغة الانجليزية، عاد إلى وطنه في صفقة لتبادل الأسرى، وأصر الرئيس أنور السادات الذي منحه نوط الامتياز من الطبقة الأولى، على أن تتضمن القائمة الأولى للأسرى المفرج عنهم 64 بطلا من سيناء من بينهم الدكتور محمود حمودة الأزعر الذي عاش بيننا رمزا للبطولة والفداء دون انتظار المقابل، ليلقن الأجيال الجديدة دروسا في الوطنية وكيفية الحفاظ على الأرض التي رسم الأجداد حدودها بأشلائهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى