إبراهيم علوش يكتب:مسألتان جوهريتان في خطاب السيد حسن نصرالله
إبراهيم علوش يكتب:مسألتان جوهريتان في خطاب السيد حسن نصرالله
كثيراً ما يجري التركيز على خطاب سماحة السيد حسن نصرالله من منظور الشأن الراهن. وهذا يعني في اللحظة الغزّية الراهنة محاولة تحسس مؤشرات التصعيد أو التهدئة في الصراع مع العدو الصهيوني، إذ كان السؤال في البداية: هل سيُشعل حزب الله الحرب على الجبهة اللبنانية؟ ثم أصبح: كم سيصعّد حزب الله رداً على اغتيال القائد الشهيد صالح العاروري في الضاحية الجنوبية؟ وعلى اغتيال القيادي الكبير في قوة القدس، رضي موسوي، في ريف دمشق في منطقة السيدة زينب؟
لكنّ حزب الله دخل الحرب في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، على جبهة يبلغ طولها أكثر من مئة كيلومتر، من جنوبي لبنان إلى الجولان المحتل، بأكثر من 700 عملية عسكرية خلال ثلاثة أشهر، وبقسطٍ يوميٍ من الشهداء، من شباب حزب الله، وشباب فصائل أخرى فلسطينية ولبنانية.
أما كيف ومتى ستتوسع تلك الجبهة وتتعمق، فذلك ما عكف عليه عشرات المحللين والمعلقين، وهو ليس موضوعنا الآن أو أي بعد آخر راهن في خطاب سماحة السيد. إن الأهم، في رأيي المتواضع، هو بعدان جوهريان آخران متضافران يمتدان كالعروة الوثقى عبر كثير من خطاباته. ولطالما نفَذ السيد حسن نصرالله من الشؤون الراهنة إليهما، معيداً تأكيدهما تصاعدياً في منحنىً تثقيفيٍ دؤوبٍ ما برح يوظف كل مهاراته الفذة في التواصل الجماهيري من أجل تكريسهما.
على الرغم من ذلك، نجد هذين الجوهرين يضيعان في زحمة البحث عن الدلالات السياسية الآنية في كلمات السيد حسن نصرالله، إذ كثيراً ما يجري تجاوزهما من طرف المحللين والمعلقين كـ”حشوة خطابية وتعبوية”، في حين أنهما جوهران أساسيان لو عمل بمنطقهما عشرات ملايين سامعيه ممن يخاطبهم، فإن ذلك كفيلٌ بقلب موازين القوى في منطقتنا وبتحصينها جذرياً، ومثل ذلك الجهد المنهجي طويل المدى، ذي البعد التثقيفي الهادف، يظل علامة مميزة لخطاب سماحته.
سأتخذ من كلمة سماحة السيد حسن نصرالله في 3/1/2024، في الذكرى الرابعة لاستشهاد قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وإخوانهما، أساساً لتحديد هذين الجوهرين وبلورتهما، مع أن متابعي كلمات السيد حسن سيتذكرون حتماً روابط كثيرة لهذين الجوهرين في خطاباته الأخرى. ومن البديهي أن ما يلي قراءة أو اجتهاد من طرف كاتب هذه السطور لا يتحمل مسؤولية أي شطط أو مبالغة محتملة فيهما غيره.
أما الجوهر الأول، فهو الموقف المبدئي من وجود المستعمرين المستوطنين في فلسطين.
أما الجوهر الثاني، فهو الموقف المبدئي مما يسمى “الشرعية الدولية” وقراراتها وهيئاتها.
هذان الجوهران مترابطان متضافران، كما سبقت الإشارة، لأن الانطلاق من أرضية ما يسمى “الشرعية الدولية” وقراراتها وهيئاتها، حتى لو لم تقبل “إسرائيل” الالتزام بها، يعني القبول بحق الكيان الصهيوني بالوجود، وبحقه في الأمن والسيادة… أسوةً بأي دولة طبيعية. وهذا يجعل الخلاف معه خلاف حدود، لا صراع وجود، ويجعل أي عمل مقاوِم ضده “إرهاباً”، كما أنه يجعل العمل المقاوِم، حتى عندما يُعترف بمشروعيته، رداً على إرهاب الكيان وإجرامه فحسب، لا رداً على حقيقة وجوده كاحتلال.
شتان ما بين هذا وذاك طبعاً، لأن المقاومة التي تأتي “رداً” على جرائم الكيان الصهيوني وتماديه فحسب، يمكن وقفها في صفقة سياسية مع ذلك الكيان إذا أوقف جرائمه وتماديه. أما المقاومة التي تأتي رداً على حقيقة وجود الاحتلال الصهيوني ذاته منذ 75 عاماً، فلا يمكن وقفها إلا عند تحقيق التحرير الكامل، وهذا مهم لبناء رؤية دقيقة لطبيعة الصراع.
ماذا يعني التأكيد على وجود الاحتلال منذ 75 عاماً؟
لذلك، يأتي التأكيد على حقيقة وجود الاحتلال منذ 75 عاماً أساساً ضرورياً لأي مشروع تحرير. والسيد حسن نصرالله كرر ذلك الرقم مراراً في كلمته في 3/1/2024، وهو رقم ذو دلالة كبيرة: “ظلامات الشعب الفلسطيني خلال 75 عاماً… 75 سنة من القهر ومن العذاب والسجون والتشريد والشتات… شعب لا يمكن أن ينسى أرضه ولا تاريخه ولا حاضره ولا مستقبله ولا مقدساته، وهذا ما يعبر عنه الإسرائيليون بأسى بأسى بعد 75 سنة”.
إن الأرض المحتلة منذ 75 عاماً تحتاج إلى مشروع تحرير كامل، وليكن واضحاً أن التحرير هنا يعني رحيل المستعمرين المستوطنين من أرضنا، لا البحث عن صيغ تعايشية مع المحتل الغاصب ليست مهمتنا أن نبحث عنها أصلاً، ومن المعيب أن تكون برنامج أي “حركة تحرر”.
كان ذلك الموقف واضحاً بصورة جلية من قبلُ، فليس هذا جديداً. نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، كلمة السيد حسن نصرالله في عيد المقاومة والتحرير في 10/7/2019، حين خاطب الفلسطينيين قائلاً: “يمكنكم أن تفرضوا على الغزاة الصهاينة أن يعودوا من حيث أتوا… فليذهب الفالاشا إلى إثيوبيا… فليعد اليهود الروس إلى روسيا”.
وفي 3/1/2024، وفي مناسبات عديدة أخرى، عاد السيد حسن نصرالله إلى طرق النقطة ذاتها مراراً. فهناك تأكيدٌ دائبٌ على حتمية زوال “إسرائيل”.
وبعد عملية “طوفان الأقصى” تركز الخطاب على أن تلك العملية الإبداعية تؤسس لزوالها. وكما قال: “إسرائيل دولة إن فقدت الأمن لا يمكن أن تبقى، أناسها وشعبها لا يبقون لأنّ الصلة بالأرض هي صلة كاذبة، هي صلة مُخترعة، هي صلة مُنافقة غير صحيحة على الإطلاق. الإنكليز هم الذين أتوا بهم إلى فلسطين”.
وأضاف: “إسرائيل كيان مُصطنع، إسرائيل شعب “ملزّق تلزيق” من كلّ أنحاء العالم وكل واحد معه جنسية ثانية وحقيبته جاهزة، الصلة بهذه الأرض قائمة على الأمن وأنّها أرض اللبن والعسل، عندما لا تعود أرض اللبن والعسل، وعندما يفتقدون الأمن، انتهى”، ليصل سماحته إلى أن “المشهد الذي نراه لمستقبل إسرائيل هو هؤلاء الصهاينة الذين يجمعون حقائبهم ويرحلون من المطارات ومن الموانئ ومن الحدود ومن المعابر، هذا هو المشهد الآتي”.
بعد ذلك، ركز على الهجرة العكسية خارج الكيان الصهيوني، وخصوصاً من طرف النخب وأصحاب رؤوس الأموال، ثم تلاها توسعٌ، في النقطة رقم 11 في كلمته، في مسألة “بقاء إسرائيل” وحتمية زوالها.
لكن بيت القصيد هو هذا: “لا يمكن أن تبقوا هنا، هناك خطر، هناك خوف، هناك قلق، لا يوجد أمن، هناك وضع نفسي صعب، تريدون أن تعيشوا طمأنينة؟ أنت يا صاحب الباسبور الأمريكي، اذهب إلى أمريكا، وأنت يا بريطاني، اذهب إلى بريطانيا، وأنت يا فرنسي، اذهب إلى فرنسا، أنتم الإسرائيليون ليس عندكم إلا هذا المستقبل، وأرض فلسطين من البحر إلى النهر هي فقط وفقط للشعب الفلسطيني”.
انتهينا إذاً. ثمة تعريف واضح لمشروع التحرير هنا: مغادرة الغزاة المستوطنين أرض فلسطين، وعودتها كاملة إلى الشعب الفلسطيني. وإن هذا التوجه بالمناسبة يحاكي النفس العفوي للشعب العربي برمته، لا الشعب الفلسطيني فحسب، والعلة تبقى في الاختراقات التي وقعت في صفوف بعض النخب، من كل التيارات، للأسف.
في معنى تحرير فلسطين
بإمكان المثقف أو المفكر العربي بالمناسبة أن يرافع دفاعاً عن هذا التأويل لبرنامج تحرير فلسطين من منطلق إسلامي، أو قومي، أو ماركسي، أو حتى إنساني.
ومن اللافت أن السيد حسن، حين تناول التحول الذي طرأ على الرأي العام الغربي لمصلحة القضية الفلسطينية، بعد العدوان الصهيوني على غزة، لم يبنِ ذلك على التنازلات المبدئية التي قدمها التسوويون والمطبعون العرب بذريعة “كسب الرأي العام الغربي”، بل أشار إلى أن “المشهد اليوم، يجرون استطلاعات رأي الشباب الأمريكي، أكثر من 50 في المئة ليس فقط مع اعطاء الفلسطينيين حقوقهم، أكثر من 50 في المئة يقول يجب تفكيك دولة إسرائيل وإعادة كل أرض فلسطين للشعب الفلسطيني، هذا أين كان يمكن أن يحدث؟”.
نعم، إن تفكيك الكيان الصهيوني هو المشروع، وإعادة فلسطين كاملة إلى الشعب الفلسطيني. ويمكن تلخيص هذا البرنامج بكلمة واحدة: “ارحل”. ومن المهم أن يدرك حزب الله أن إنتاج تأويلات قومية ويسارية ومتنوعة الطيف تدعو لتفكيك الكيان الصهيوني ورحيل المحتل يزيد موقفهم مصداقية ويحصنه ولا يقلل منه، حتى لا يتهم ذلك الموقف بأنه ناتجٌ عن “تعصب ديني”.
أذكر خلال محاورة صديق أوروبي يساري قبل أكثر من 20 عاماً، ومحاولتي إقناعه بهذا الموقف بالذات، أنه رد قائلاً: “لا حاجة لك بالأيديولوجيا لدعم موقفك يا صديقي. لنفترض أنك استضفت أحدهم، فأساء الأدب وارتكب انتهاكات متواصلة بحقك، فمن حق المرء أن يطالبه بالمغادرة. بناءً عليه، فقد اليهود حق الإقامة في فلسطين، بعد عقودٍ من ارتكابهم الجرائم المتواصلة فيها”.
كان السيد حسن دقيقاً طبعاً في أنه لم يتحدث عن اليهود، بل عن غزاة مستوطنين يجب أن يرحلوا، باعتبار ذلك معنى التحرير، لكنني أرى أن كل يهودي يدب على أرض فلسطين اليوم هو موضوعياً جزء من المشروع الصهيوني بصرف النظر عن طبيعة خطابه، لأن المشروع الصهيوني هو الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة كيان سياسي فيها.
لماذا يجري الترويج للحلول التسووية في لحظات تصاعد المقاومة؟
يجب أن ننتبه جيداً هنا للفرق بين معارضي بعض السياسات الصهيونية، حرصاً على اليهود من ردة الفعل وخوفاً عواقب إفراط الكيان الصهيوني في تشدده وإجرامه، كما نرى عند بعض الشخصيات الغربية أو اليهودية التي تنتقد هذه السياسة أو تلك لكيان الاحتلال، ودعم المقاومة أو مناهضة الاحتلال حقاً.
ولعل من أكبر الأمثلة على ذلك عضو مجلس الشيوخ الأمريكي بيرني ساندرز الذي تطرف في إدانة “إرهاب” عملية “طوفان الأقصى”، لكنه عاد ليطالب بكبح جماح الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة.
نلاحظ هنا أن بعض السياسيين الغربيين راحوا يعومون اقتراحات مثل وقف إطلاق النار وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية و”حل الدولتين”، بالضبط مع تصاعد المقاومة وتكبيد الاحتلال خسائر فادحة في غزة وفشله الذريع في تحقيق أهداف العدوان وانضمام المقاومين في اليمن ولبنان والعراق.
ومن الواضح هنا أن الهدف هو الاحتواء، وترويج أوهام “الحل السياسي”، وكبح جماح التأييد الشعبي المتصاعد للمقاومة المسلحة تحديداً والاستعداد للانخراط فيها بين العرب والمسلمين وأحرار العالم.
لذلك، عاد الحديث عن “حل الدولتين وما شاكل”، كما قال السيد حسن، مضيفاً: “لو سقطت غزة في الأيام الاولى لانتهى كلّ شيء وما بكاها أحد في العالم. هذا المقدار من القوة المعنوية الهائلة والمادية المحدودة عند المقاومة في غزة وعند شعب غزة ورجال ونساء وأطفال غزة، هذا شكل من أشكال القوة، فرض نفسه على العالم، لهذا كل العالم بدأ يُغيّر رأيه ويعيد النظر ويفتّش عن حلول، لماذا؟ لأنّ هناك مشهد قوّة في غزة، رغم المظلومية الهائلة”.
نحو الانفكاك من قيد “الشرعية الدولية” عربياً وفلسطينياً
جاء ذلك في سياق المفاضلة بين مسارين: مسار ما يسمى “الشرعية الدولية” من جهة، ومسار المقاومة وبناء القوى القادرة على ممارستها من جهةٍ أخرى. ومن الواضح أن ما يسمى “الشرعية الدولية” تعنى الهيمنة الغربية أساساً، وأن تلك الهيمنة تتعامل مع الكيان الصهيوني كربيبة لها، وأنها لا تدخل وسيطاً إلا لتخفيض سقف المقاومين وشق صفوفهم وتغذية النزعات الانتهازية والمساوِمة بينهم.
يرد السيد حسن: “عبرة لنا جميعاً هذا الذي حصل في غزة، لأنه أثبت أنّ المؤسسات الدولية والنظام الدولي والمجتمع الدولي والقانون الدولي ليس قادراً على حماية أيّ شعب، ليس قادراً على حماية أحد”.
إن القرار الدولي والمجتمع الدولي لا يحميان أحداً، وبالتالي فإن الدعوة لتسليم السلاح والاعتماد عليهما ليس مجرد خلافٍ في وجهات النظر، بل “عمى قلب، عمى بصر، وعمى بصيرة”، إذ إن “التجربة تقول إن كنت ضعيفاً لا يعترف بك العالم ولا يحميك العالم ولا يُدافع عنك العالم ولا يبكي عليك العالم، حتى البكاء لا يبكي عليك، الذي يحميك هو قوتك وشجاعتك وقبضاتك وسلاحك وصواريخك وحضورك في الميدان، وإن كنت قوياً تفرض احترامك على العالم”.
إن هذا كلامٌ من ذهب، في رأيي المتواضع، وهو برسم المراهنين على القرار الدولي و”الشرعية الدولية” وعلى التزام الكيان الصهيوني بهما، وإلى ما هنالك من “كلامٍ سخيف”، كما قال سماحته، لأن “الشرعية الدولية” لم تكن يوماً مع الشعوب المضطهَدة والمقهورة، ولا سيما العرب، ولم تنتج قراراً يوماً، في سياق صراعنا مع الحركة الصهيونية، إلا لتسويغ مكسبٍ ما لها.
القرار 181 مثلاً، قرار التقسيم في 29/11/1947، جاء ليعطي العدو الصهيوني شيئاً في فلسطين عندما لم يكن لديه شيئٌ فيها. والقرار 242، بعد حرب الـ 1967، جاء ليكرس مشروعية الاحتلال الصهيوني دولياً في الأراضي التي احتلها فوق تلك التي منحته إياها “الشرعية الدولية” المزعومة في قرار 181، إذ إن القرار الأول منح العدو الصهيوني 55% من فلسطين، في حين منحها القرار الثاني 78% من فلسطين. ثم جاءت مصادقة “الشرعية الدولية” على الاتفاقيات والمعاهدات مع العدو الصهيوني كي تمنحه صفة “دولة طبيعية” حتى من دون إعادة الـ 22% الباقية من فلسطين.
نحتاج إلى “تصفية حساب” إذاً مع خط الالتحاق الذيلي بما يسمى “الشرعية الدولية” عربياً وفلسطينياً إذا أردنا وضع القضية الفلسطينية، وبالتالي مشروع التحرير، في نصابهما الصحيح. والموضوع أكبر بكثير من التصدي لتوظيف مقولة “الشرعية الدولية” في نزع سلاح المقاومة في لبنان (كضمانة لمنع صهينة لبنان وأمركته)، لأن القطيعة مع “الشرعية الدولية” باتت الشرط الضروري لتحرير العقل السياسي العربي والفلسطيني من أفخاخ الاعتراف بمشروعية الاحتلال، ومن تخفيض سقف “النضال” إلى “تطبيع بشروط أفضل”.
كل الشكر للسيد حسن نصرالله لأنه قصف مستعمرات الحلول التعايشية مع العدو الصهيوني في العقل السياسي، ولأنه وضع مصطلح تحرير فلسطين في نصابه السليم.