عبدالحليم قنديل يكتب:حرب الأقنعة فى “النيجر”
عبدالحليم قنديل يكتب:حرب الأقنعة فى “النيجر”
ليس صحيحا أن الغرب يدافع عن الديمقراطية فى “النيجر” ، ولا عن الرئيس المعزول “محمد بازوم” ، الغرب يدافع عن مصالحه ومطامعه الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية ، وفى أفريقيا المعاصرة ، جرى أكثر من مئة انقلاب ، وكان الغرب يسكت عن كل انقلاب يحقق أو يتكيف مع رغباته ، ويفتح النار وأسطوانات الديمقراطية المشروخة إن لم يكن كذلك ، ويشهر أسلحة العقوبات والتدخلات اللينة والخشنة ، وصولا إلى شن الحروب وتفكيك الدول .
وحتى تاريخ كتابة هذه السطور ، لم تكن قد عقدت القمة الطارئة لدول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “ايكواس” ، وقد قيل أنها أعدت خطة تدخل عسكرى لردع انقلاب “النيجر” ، وأنها تحظى بدعم غربى ، وإن كانت التشققات الغربية تتزايد ، على نحو ما بدا فى مواقف إيطاليا وأسبانيا وغيرها ، وهى ترفض التدخل العسكرى تخوفا من تدفقات هجرة غير نظامية هائلة إلى الشواطئ الأوروبية ، تعد “النيجر” واحدة من أهم مصادرها ، بسبب الفقر الرهيب ، والاستنزاف الغربى طويل المدى لموارد “النيجر” التعدينية ، وأهمها “اليورانيوم” و”الذهب” ، فى بلد يصل عدد سكانه إلى نحو 27 مليونا ، وبامتداد جغرافى حبيس ، تصل مساحته إلى مليون و 270 ألف كيلومتر مربع ، ويعيش القسم الأكبر من سكانه جنوبا حول روافد “نهر النيجر” ، بينما تتصارع القبائل والمجموعات العرقية فى بلد غالبه الساحق من المسلمين ، منهم ما يفوق العشرة بالمئة من أصول عربية ، تنشط بينهم مجموعات إرهاب ، تغطى سعيها لاقتناص فتات الحياة الشحيحة من وراء أقنعة دينية “داعشية” و”قاعدية” ، تحركها دوائر مخابرات غربية عند الحاجة ، وعلى طريقة ما يحدث اليوم فى “النيجر” ، وفى حين تتحمس فرنسا أكثر للتدخل العسكرى ، بدعوى إنقاذ حليفها وتابعها “بازوم” ، ودرءا لقرارات “المجلس العسكرى” بإلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية المعقودة مع “باريس” ، وهو ما يعنى لدى تحققه ، أن فرنسا تخسر وجودها وامتيازاتها المهولة فى مستعمرتها السابقة ، تماما كما جرى قبلها فى “مالى” و”بوركينا فاسو” ، فى حين لا تبدو “واشنطن” متحمسة علنا لأولويات فرنسا ، التى تملك قاعدة عسكرية مهددة فى شرق “النيجر” ، قوامها نحو 1500 جندى ، بينما لأمريكا قاعدتان للطائرات المسيرة والاستطلاع ، وتعتبر وجودها فى “النيجر” حيويا لعمل القوات الأمريكية فى أفريقيا “أفريكوم” ، وربما يفسر ذلك امتناع واشنطن حتى تاريخه ، وتحفظها فى وصف حكومة الجنرال “عبد الرحمن تيانى” بالانقلاب العسكرى ، وتفضيلها سياسة اللعب على الحبال ، فهى تضع قدما فى ملعب التفاهم مع الجنرالات ، وتضع القدم الأخرى فى حفز وتخطيط ودعم خطة تدخل “ايكواس” عسكريا ، وبهدف “خض ورج” مواقف الحكام الجدد فى “نيامى” ، وإن لم يحقق سعى واشنطن للتفاهم الدبلوماسى تقدما ظاهرا إلى اليوم ، فقد عوملت وكيلة الخارجية الأمريكية “فيكتوريا نولاند” بقدر ملحوظ من الازدراء ، وقالت أن مساعيها لم تنجح للقاء الرئيس المحتجز ، وأن قائد الانقلاب امتنع عن لقائها فى زيارتها الاستكشافية الأخيرة ، بينما التصريحات الرسمية للرئيس الأمريكى “جو بايدن” ولوزير خارجيته “أنتونى بلينكن” ، تواصل مراوغاتها المنافقة عن دعم عودة الرئيس المعزول ، والسعى للضغط على قادة الانقلاب بحثا عن حل دبلوماسى ، ويلفت النظر ، أن واشنطن التى تحرص على الزج باسم روسيا فى كل أزمة ، تميل فى أزمة “النيجر” ، إلى تبرئة ذمة روسيا و”فاجنر” ، وتقطع علنا بغياب أى دور روسى فى الانقلاب وما بعده ، برغم أن مظاهر الاحتفاء بروسيا وبأعلامها طاغية غلابة فى احتفالات مئات آلاف “النيجريين” بالقادة الجدد ، وبطلبهم دعم روسيا وجماعة “فاجنر” ، وما من تفسير للمفارقة ، سوى أن واشنطن تتحسب لاحتمالات فشل التدخل العسكرى إن حدث ، وتريد ترك نافذة للتفاهم مع حكم الجنرالات ، ومع حكومة “على الأمين زين” رئيس الوزراء الجديد ، والإبقاء على صلات تمكنها فى وقت لاحق من تدبير الانقلاب على الانقلاب الحالى ، يؤمن وجود قواعدها العسكرية ، واستمرار التلاعب بحجة وأولوية “مكافحة” الإرهاب فى أفريقيا ، بينما هى التى تدعم وجود ونشاط جماعات الإرهاب ، ومن طرف خفى وظاهر ، فقد تحولت دول حزام الساحل الأفريقى ، وبينها “النيجر” ، إلى أكبر ملاعب الإرهاب فى العالم ، وفى هذه الدول 43% من ضحايا الإرهاب فى الدنيا كلها ، وقد أدى تدخل حلف “الناتو” عسكريا فى ليبيا إلى تحطيم دولتها ، وإلى جعلها معبرا ميسرا لجماعات الإرهاب إلى قلب دول الساحل الأفريقى ، وأسوأ آثار التدخل العسكرى إن حدث فى “النيجر” ، تحطيم ما تبقى من تماسك دولتها ، ومنح جماعات الإرهاب فرص ازدهار مضافة ، تبرر للغرب عموما ، ولواشنطن بالذات ، أن تواصل أحاديثها الملتوية عن مكافحة الإرهاب ، ونشر “ديمقراطيات” التفكيك اللانهائى ، وعلى نحو ما جرى فى كل بلد دخلته أمريكا فى العقود الثلاث السابقة ، فالسياسة الأمريكية معروفة بازدواج المعايير والوجوه ، وما تعلنه واشنطن رسميا شئ ، بينما ما تفعله أجهزة مخابراتها فى مقلب آخر ، تنكر علنا وجود دور روسى فى “النيجر” ، بينما تستحضر بأفعالها أشباح روسيا وعفاريت “فاجنر” إلى قلب الصورة ، فقد لا يكون لروسيا بالفعل دور فى التحضير لانقلاب “النيجر” ، لكن الدور الروسى حاضر ويزيد فى دعم الحكام الجدد ، تماما كما فى جهات عديدة من أفريقيا ، تضيق بالعنت والاستعباد الغربى والأمريكى ، وتتصور أن مد الصلات مع روسيا ـ والصين ـ قد يكون داعما لها ومنقذا .
وبالجملة ، لا يريد الغرب ، ولا تريد واشنطن بالذات ، أن تعترف بأن العالم يتغير ، وأن دنيا تعدد الأقطاب زاحفة ، وأن أصداء التحول الجارى تظهر فى أفريقيا ، وتبدل معادلات تقادمت عليها العهود والعقود ، وبرغم أن واشنطن تحاول أحيانا تدارك الموقف ، وعقد قمم “أمريكية ـ أفريقية” فى السنوات الأخيرة ، وتقديم وعود بمعونات واستثمارات وتحالفات أمنية ، إلا أنها تفعل ذلك وغيره بعد فوات الأوان على ما يبدو ، فقد تضخم وتوسع الدور الصينى فى أفريقيا ، وإلى حدود لا تستطيع واشنطن مجاراتها ، ليس لأنها لا تملك الموارد هى وحلفاؤها الأوربيون الأقربون ، بل لأن النظرة الغربية لأفريقيا ، لم تغادر أبدا مواقعها العنصرية الاستعمارية الاستعبادية ، برغم محاولات تجميل فى تغيير اللهجات والاقترابات ، فما من فارق جوهرى فى العمق بين “رسالة الرجل الأبيض” ، التى كانت عنوانا لمئات سنوات الاستعمار “الكولونيالى” القديم ، وبين رسالة “الديمقراطية السعيدة” ، التى يتستر خلفها الاستعباد الغربى اليوم ، فما من فرصة ولا إغراء لحكم “ديمقراطى” المظاهر ، فى أوطان منهوبة الموارد معدومة الاستقلال ، وفى دول بسلطات مركزية هشة ، ولدى شعوب يأكلها الفقر ، وتسودها المذلة الداهسة لكرامة الناس ، إضافة لحروب الإرهاب والنزاعات الأهلية والعرقية ، والنخب الأفريقية بأجيالها الجديدة ، تريد أن تشعر أولا بوجودها وكرامتها الإنسانية ، وتريد مصيرا آخر ، غير الموت غرقا فى رحلة الهروب إلى الشمال ، وكثيرون بينهم ، صاروا يعلقون الجرس فى رقبة القط ، ويدركون أن الغرب الذى يخدعهم بوعود فارغة ، هو اللاعب الأول فى مآسى البؤس الأفريقى ، وهم مستعدون للتجاوب مع أى صوت كاره للغرب ، حتى لو كانت أصوات الانقلابات والجنرالات ، وهو ما يفسر اندفاع الحماس الشعبى الظاهر لانقلاب “النيجر” وما قبله ، ومعه الحماس لاستجلاب الروس وكسب مودة الصينيين ، وهو اتجاه مرشح للتنامى ، حتى لو افترضنا جدلا إمكانية نجاح التدخل العسكرى بإزاحة جنرالات “النيجر” الجدد ، فالشعور الجارف بالعداء للغرب سيظل حيا ، وربما يوالى انقلاباته فى أفريقيا جنوب الصحراء ، فما بالك لو حدث ما هو وارد جدا ، وجرى العدول عن التدخل العسكرى من وراء أقنعة أفريقية ، أو جرت هزيمته مبكرا ، فقد تملك نيجيريا و”ايكواسها” قوة عسكرية كبيرة قياسا إلى “النيجر” ، وجيش نيجيريا هو رابع أقوى جيش فى أفريقيا ، لكنه لا يملك الفرصة لفوز مؤكد ومستقر فى “النيجر” المجاورة المحاذية بحدود طولها نحو 1500 كيلومتر مربع ، عدا أن أصوات القلق والتخوف والرفض والضيق تتصاعد فى “نيجيريا” ذاتها ، ودفعت مؤسسات برلمانية ـ كمجلس الشيوخ ـ إلى المطالبة بكف اليد والحيلولة دون الخيار العسكرى ، فلم تجرؤ “ايكواس” على تدخل مماثل فى أحوال كثيرة سابقة ، وتدخلها اليتيم فى “جامبيا” الصغيرة جدا عام 2017 ، كان الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ، ولم تحدث وقتها معارك تذكر ، وقبل الرئيس “يحيى جامع” التنحى عن الحكم بعد خسارته الانتخابات ، فى سيناريو مختلف عن الوضع اليوم فى “النيجر” ، التى تعلن استعدادها للحرب مع الغزاة ، ويصمم قادتها الجدد على إجلاء القواعد الأجنبية ، ولا يملك شعبها شيئا يخسره ، إن هو حارب المعتدين على كرامة بلاده المهانة .