كتابنا

عبدالحليم قنديل يكتب: على اسم الشهيد “محمد صلاح”

أيا ما كان اختلاف الروايات والأقوال فى قضية الجندى المصرى “محمد صلاح” ، فقد دخل تاريخ مصر الوطنى من أوسع الأبواب وأعظمها قداسة ، وصار شهيد مصر وفلسطين والأمة كلها ، وقد كانت فلسطين وستبقى قضية وطنية مصرية ، وفى حروب مصر مع كيان الاحنلال الإسرائيلى ، ارتقى مئة ألف شهيد وجريح ومعاق ، يضاف إليهم اليوم اسم الشاب الشهيد “محمد صلاح إبراهيم ” ، عامل “الألوميتال” ، وقد جاوز العشرين ربيعا ، والذى تبدو ابتسامته الخفيفة فى صوره المنشورة ، كما لو كانت منتزعة من قلب كسير ، ربما كعامة المصريين ، الذين ترهقهم بطولة البقاء المكافح على قيد الحياة ، لكنهم فى لحظة الخطر وملاقاة العدو ، ينقلبون أسودا ، ويجترحون بطولات إعجازية ، على طريقة البطل “محمد صلاح” ، الذى حارب وحده ، وعلى مدى جاوز الخمس ساعات ، وببندقية “كلاشينكوف” وسكين عسكرى ، وواجه كتيبتين من جيش الاحتلال ، وقتل ثلاثة جنود ، وأصاب آخرين بينهم ضابط كبير برتبة “عميد” .

وقد لا يعرف أحد ، ماذا كان يدور برأس “محمد صلاح” ، وهو يتحرك بعد الفجر ، ويقص بسكينة العسكرى روابط بلاستيك ، كانت تغلق معبر الطوارئ فى معبر “العوجة” على حدود مصر مع فلسطين المحتلة ، وينطلق وحيدا فى صحراء “النقب” ، ويدوس التضاريس القاسية على طول 5 كيلومترات ، ويطلق رصاصه القليل المصوب بدقة ، فيقتل جنديا وجندية من جيش العدو ، ويكمن بين الصخور لساعات طويلة ، وإلى أن تكتشفه طائرات العدو “المسيرة” ، وتبعث جحافل من قواتها لقنصه ، فلا تكون النتيجة ، غير قتل جندى “إسرائيلى” ثالث وربما رابع ، وجرح قائد القوة المعادية ، ونيل “محمد صلاح” شرف الشهادة على صخرة الصحراء المقدسة .
وقد لاتعنينا كثيرا روايات “إسرائيل” عن الحادث ، ولا وصفها للشهيد بأنه “مخرب” و”إرهابى” ، فهذه هى اللغة االوضيعة المعتادة ، التى وصلت بوزير فى حكومة الاحتلال ، إلى وصف “محمد صلاح” بالقاتل “الحقير” ، فلم يعرف العالم ولا تاريخ البشرية ، لم يعرف أحد شخصا أحقر من هذا الوزير “إتمار بن غفير” ، وهو من البلطجية وأرباب السوابق ، الذين اعتادوا واستمرأوا انتهاك حرمة المسجد الأقصى الشريف ، وقيادة حملات دهس وقتل الأطفال والنساء وإعدام الأسرى ، وهو يعد نفسه وزيرا للأمن وقائدا للشرطة ، وكأن آيات الدنيا انقلبت على أعقابها ، وصار “الحرامى” هو نفسه “الشرطى” ، وقد سرق “بن غفير” وأجداده وطنا بكامله ، وأمعنوا فى التنكيل بأهل الوطن الأصليين ، وتعاموا ويتعامون عن أم الحقائق ، وهى أن الاحتلال جريمة لا تسقط بالتقادم ، وأن صاحب الحق لن يفرط فيه ، ومهما توالت المظالم والأجيال ، وهم يعرفون بسالة جيل “محمد صلاح” فى فلسطين ، الذين يموت الواحد منهم واقفا ، وكشجرة زيتون مغروسة فى التراب المقدس ، تؤتى أكلها كل حين ، وكلما صعدت روح أحدهم إلى بارئها الجليل ، نبتت شجرة جديدة ، تواصل التحدى مع رياح الظالمين المعتدين السارقين للأحلام والأوطان .
والفلسطينيون لا ينسون وطنهم ولا حقوقهم ولا عذابهم ، يموت الأجداد ويموت الآباء ، لكنهم يتركون مفاتيح البيوت المسروقة ، ويعلقها الأحفاد تمائم فى رقابهم ، وتسرى فى عروقهم روح الثأر مما كان ويكون ، وكذلك “محمد صلاح” المصرى ، الذى قالوا له ويقولون ، أن مصر الرسمية عقدت “معاهدة سلام” مع إسرائيل من 44 سنة ، وأن الأعداء صاروا أصدقاء ، ويحجبون عنه ذكريات ماجرى فى “سيناء” التى يحرس حدودها ، وارتوى كل شبر فيها بدماء المصريين ، لكن “محمد صلاح” الشاب رهيف الروح ، الذى كان يحب الرسم ويستعيذ من الفقر ، ويحمل فى جيبه مصحفا كعامة المصريين ، لم يكن بحاجة لمن يذكر ويعظ ، فهو يرى بعينيه فظاعات وأهوال ، ولا يجد ردا ولا إنصافا للضحايا ، ولا سعيا للعدالة وكسبا للحقوق ، ويقرر ألا ينتظر أحدا ، ويقدم روحه فداء للأمة المنكوبة ، ولا يجد فرقا بين مطاردة مهربى المخدرات وقتل سارقى الأوطان ، ويختاره مصيره عن سابق عمد وإصرار ، ويقرر فى سلاسة ، أن يعبر الحواجز مع أول طلعة شمس ، وأن يتحول من شاب عادى جدا ، تنطق ملامحه بالخجل والحياء ، ويتحول إلى بطل فوق العادة ، يستعيد صور وأمجاد أبطال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر ، وسير أبطال “منظمة سيناء العربية ” وأبطال قوات الصاعقة العظام ، وهو الذى لم يتلق تدريبهم ، لكنه يحمل ذات جيناتهم ، فهو فقير مثلهم ، لا يعرف راحة العيش ، لكنه يحمل ذات الروح الأغنى ، فالفقراء هم الذين “عبروا” وحرروا ، ثم جاء الآخرون الذين “هبروا” ، وعزفوا أناشيد السلام المشروخة ، بينما لا سلام ولا كلام يقنع ، وبينما الخطر محيط وداهم ، وبينما وجود “إسرائيل” فى ذاته خطر على الوجود المصرى فى ذاته ، فالقضية أبعد من الحدود التى كلفوه بحراستها ، والقضية فى صلب وفى متن الوجود بكرامة ، وللذين وقعوا الاتفاقات والمعاهدات أن يحرسوها ، بينما سواد المصريين يدرك الحقيقة ببساطة ، وعلى الفطرة الوطنية النقية ، تماما كما أدركها الشاب المصرى نبيل الطلعة “محمد صلاح” ، وتماما كما أدركها من قبل أبطال “منظمة ثورة مصر” الناصرية قبل نحو أربعين سنة ، وتماما كما أدركها شاب مصرى مجند اسمه “سليمان خاطر” ، تكاد ملامحه تطابق ملامح “محمد صلاح” ، وبذات الابتسامة المنتزعة من خشونة الحياة ، وقد قرر أواسط ثمانينيات القرن العشرين ، أن يدافع عن كرامته بسلاحه ، وقتل وقتها سبعة إسرائيليين ، وتحول إلى أيقونة وعلامة على رفض التطبيع أو التكيف مع العدو ، تماما كما فعل أبطال “ثورة مصر” معه وقبله ، وأداروا عملا بالغ الاحترافية لقتل عملاء “الموساد” والمخابرات الأمريكية فى شوارع القاهرة ، وتماما كما فعل الشهيد الأول “سعد إدريس حلاوة” ، الذى قرر التمرد بشخصه ، وتحرك احتجاجا على فتح أول سفارة لإسرائيل فى القاهرة ، وقتلته وزارة داخلية “السادات” ، ولم تضع الدماء سدى ، فقد “فرملت” قطار التطبيع فى مصر ، وأوقفت مع مظاهرات الوطنيين كل صور التطبيع العلنى المتبجح ، وصار التطبيع عرفا جريمة سالبة لشرف من يقترفها ، ولا يجرؤ أحد على البوح بها ، وإن فعل ، فمصيره النبذ والاحتقار الشعبى ، أو الفصل من النقابات المهنية والعمالية ، التى قررت كلها حظر أى اتصال شعبى بالعدو ، وكانت النتائج ، أن التطبيع فى مصر صار كاللهو الخفى ، تحصره السلطات فى أجهزتها الأمنية ، وفى اتفاقاتها المرفوضة عن “الغاز” و”الكويز” ، ولا تسمح بتطبيع “شعبى” من خارجها ، ربما لأنها تدرك عمق كراهية المصريين للسياسة الإسرائيلية وراعيتها الأمريكية ، وفى حوادث تلت اضطرار السلطات لمنع المشاركات الإسرائيلية فى “معرض الكتاب” و”المعرض الصناعى” والمهرجانات الفنية وغيرها ، بدا أن طابور الفداء المصرى الكاره للتطبيع تتصل حلقاته ، وأقدم الجندى المصرى “أيمن حسن” على قتل ما يزيد على عشرين جنديا إسرائيليا عند نقطة حدود “رأس النقب” ، جرى الحادث أوائل التسعينيات ، وبعده بنحو عشرين سنة ، أقدم الشباب المصرى على اقتحام وحرق السفارة الإسرائيلية بالقاهرة أواخر 2011 ، ومن وقتها ، لم يعد للعدو من مقر مستقل لسفارته ، وصار منزل السفير بحى “المعادى” هو نفسه مقر السفارة ، وظل السفير فى وضع المنبوذ المعزول ، لا يزور ولا يزار ، فالتطبيع مكروه شعبيا ، ومن أغلبية المصريين الساحقة ، والسلطات نفسها تدرك ذلك على تعاقب الأنظمة ، وربما لذلك ، بدت حذرة متحفظة فى التصرف مع قضية البطل الجديد “محمد صلاح” ، وحاولت مد “شعرة معاوية” مع الشعور الشعبى الكاره لسيرة العدو الإسرائيلى والمناصر بحماس لبطولة الجندى ، وكان الصمت الغالب هو سيد المسرح فى الإعلام الرسمى ، وإن لفت النظر خروجا استثنائيا عن قاعدة الصمت المعمم ، تمثل فى مداخلات محدودة ، كان عنوانها مداخلة اللواء “سمير فرج” ، وقد كان فى السابق مديرا للشئون المعنوية فى القوات المسلحة المصرية ، وكان مسئول الإعلام فى “المجلس العسكرى” الحاكم عقب ثورة 25 يناير 2011 ، وهو معروف بصلاته الظاهرة مع من بيدهم الأمر فى مصر اليوم ، وكان لافتا أنه وصف “محمد صلاح” على نحو يليق ، وقال عنه أنه أدى واجبه “عشرة على عشرة” ، ونعته بالشهيد والبطل كما يستحق ، فيما بدا كخروج على النص الرسمى الصامت ، الذى يحاول الموازنة بين اعتبارات العلاقات الرسمية مع دولة “إسرائيل” ، وبين الشعور الشعبى الذى يعرف حقيقته ، وكرامة الجيش الذى ظل على عقيدته القتالية ، ويدرك أن الخطر الأكبر يأتى لا يزال من الشرق ، ويستعد لاحتفالية كبرى فى الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر 1973 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى