د. حسن أحمد حسن يكتب:الدور الوظيفي لـ «إسرائيل» بين الاستبدال والتعديل

شهر كامل مضى على ملحمة طوفان الأقصى والهستيريا ما تزال تفعل فعلتها في كيان الاحتلال الإسرائيلي وإصابة قادته وجنرالاته بالارتجاج وفقدان التوازن والاتزان في الأقوال والأفعال التي تؤكد هول الصدمة وعمق الجرح غير القابل للاندمال بإطلاق العنان للإرهاب وارتكاب الجرائم غير المسبوقة للانتقام من غزة المحاصرة منذ عقود، والعمل المكثف لإبادتها بشراً وحجراً وجغرافيا ووجوداً بمباركة أميركية ممهورة بحضور الرئيس الأميركي بشخصه وبوزراء الحرب والخارجية والمسؤولين الأمنيين والعسكريين الذين منحوا تل أبيب موافقة مفتوحة وغير مقيدة ولا مشروطة لتعيث قتلاً وتدميراً ووحشية في العدوانية المفرطة ضد الأطفال والنساء والعجائز، وإطلاق اليد لقتل أكبر عدد من الغزاويين، حتى وإن تطلب الأمر الدعوة لقصف غزة بالقنابل الذرية بعد إخفاق استراتيجية الحصار القاتل والتدمير الممنهج ودك البيوت والأحياء السكنية والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات والمراكز الصحية بمن فيها من أطباء وكوادر صحية وتسويتها بالأرض فوق رؤوس من فيها، من دون أن يرف جفن لحكومة نتنياهو المطمئنة إلى أن الجبروت الأميركي يحميها من أي تبعات قانونية أو مساءلة من أية جهة كانت. وعلى الرغم من ذلك بقيت غزة المغدورة النازفة، حية تقاوم باللحم الحي، وبقي مقاوموها صامدين يلقنون جيش الاحتلال وداعميه الدرس تلو الآخر في كيفية الثبات والاستبسال في الدفاع عن الوجود والكرامة بغض النظر عن الفرق الهائل وغير القابل للقياس في موازين القوى التقليدية.
شهر كامل مضى وانقضى وعداد الشهداء والجرحى في تزايد مرعب يُخْجِلُ البشرية، ويضع المجتمع الدولي برمّته في قفص الاتهام والوقوف العاجز عن إنقاذ إنسانية الإنسان وحقه في الحياة، والدفاع عن القانون الدولي المشلول بعصا الفرعون الأميركي المتخبّط أيضاً، وهو يرى روافع سطوته وجبروته تتهاوى وبتسارعات تنبئ بأنها تتجه نحو الخروج عن السيطرة، وإمكانية الذهاب نحو المجهول الذي لا يريده ولا يستطيع تحمل تداعياته، لا بل يثبت تطور الأحداث وتداعياتها خطأ التقدير وكارثية النتائج المتوقعة بغض النظر عن تشابك السيناريوات المحتملة وتعددها، فجميعها كارثي ليس على واشنطن والمنطقة فحسب، بل وعلى العالم أجمع، لأن الوحشية الإسرائيلية فاقت كل تصور، والدعم الأميركي والأطلسي لنزعة الإجرام الإسرائيلي المتوحش لم يعد قابلاً للتسويق تحت أية ذريعة أو مسميات قد يتفتق عنها الخبث الاستخباري والنفاق الغربي الذي أسقط صمود غزة عن سوأته ورقة التوت، وكشف زيف كل الأقنعة المتعددة دفعة واحدة.
هنا يصبح لزاماً التوقف عند دلالات مسارعة الإدارة الأميركية لإرسال حاملات طائراتها وغواصاتها النووية لترابط في البحر المتوسط بالإضافة إلى الأسطول الخامس الذي مقرّه في البحرين وتشمل مسؤوليته البحر الأحمر وبحر العرب وأجزاء من المحيط الهندي وكامل الخليج بجميع الدول المتشاطئة عليه؛ ومثل هذا القرار يوحي أن أمراً جللاً قد حدث، واستدعى حضور الأصيل الأميركي بجنوده وبوارجه ومدمراته لأن دور الوكيل أو الوكلاء ثبت عقمه، ولم يعد قابلاً للبناء عليه، ولا الاطمئنان إلى قدرته بالاستمرار في أداء دوره الوظيفي للحفاظ على المصالح الأميركية في منطقة جيو استراتيجية، وتحتلّ أهميتها الخاصة في استراتيجيات جميع القوى الفاعلة أو الساعية للعب دور مميز في مفاصل صنع القرار إقليمياً ودولياً. ومن المفيد هنا الإشارة إلى عدد من النقاط والأفكار المهمة ومنها:
ـــ قدرة المقاومين الفلسطينيين على اقتحام التحصينات الهندسية والإلكترونية الأعقد والأكثر منعة وتقنية في العالم، والتوغل في المستوطنات الإسرائيلية إلى عمق وصل في بعض أجزائه إلى أكثر من «30 كم». والسيطرة خلال ساعات قليلة على قيادة فرقة غزة والعديد من مراكز الشرطة والقوى البحرية والأمنية وغيرها، وقتل أعداد كبيرة من الجنود والضباط الإسرائيليين وأسر آخرين وفرار من تبقى على قيد الحياة. وهذا يعني الانهيار في المنظومتين العسكرية والأمنية، أي انتهاء صلاحية التوكيل الممنوحة للكيان المؤقت لحماية المصالح الأميركية العليا في منطقة الشرق الأوسط.
ــــــ جيوبوليتيك القوة لا مكان فيه لفراغ في الأدوار القيادية، والجغرافيا التي يتلاشى فيها دور قوة ما عظمى سيتم إملاؤها من قبل قوة عظمى أخرى عدوة أو منافسة على أقل تقدير، وهذا يفسر مسارعة القوى البحرية في أكثر من دولة أطلسية لدخول مياه المنطقة والاصطفاف ضمن التموضع القتالي الذي تحدده واشنطن، لضمان إمكانية التعامل مع أي مستجدات قد يفرزها تطور الأحداث وتداعياتها، أو أي طارئ يفرض ذاته من خارج الحسابات.
ـــــ الدور الوظيفي لـ «إسرائيل» أبعد بكثير من ضمان تدفق النفط وحوامل الطاقة من المنبع إلى المصب وفق المشيئة الأميركية. فالأهم في ذاك الدور إبقاء المنطقة بكليتها أو بغالبيتها ـــ على الأقل ـــ تدور في الفلك الأميركي من دون أي استطالات أو تطلعات للتفكير بالخروج من تحت العباءة الأميركية، ولا يكفي ولاء الحكام وولاة الأمر المعلن لضمان ذلك، بل يتطلب وجود قوة خشنة «عسكرية» قادرة على التهديد وتنفيذ التهديد عندما يتطلب الأمر. وهذا ما لا يستطيع أي طرف آخر غير الكيان الإسرائيلي التعهد به.
ـــ حكام تل أبيب يدركون تفردهم بإمكانية الاضطلاع بالدور الوظيفي المطلوب أميركياً، ولذا يكررون محاولات توسيع هامش المناورة الذي يخولهم الظهور بمظهر البلطجي المشاغب أو الولد العاق أحياناً، ليس لشق عصا الطاعة الأميركية، بل للتذكير بأهمية دورهم لجميع مفاصل صنع القرار الأميركي، ولعل حكومة نتنياهو هي الأكثر براعة في لعب هذا الدور المزدوج على حبلين متناقضين، حيث حماية المصالح الأميركية من جهة، ومحاولة فرض وجهات النظر الشخصية من جهة أخرى، حتى ولو كانت متناقضة مع تلك المصالح، ولا سيما في ظل ارتجاج توازن القوى على الساحتين الإقليمية والدولية.
ـــــ أي خروج للأمور عن السيطرة في منطقة الشرق الأوسط يشكل تهديداً جوهرياً للثقل الجيوبوليتيكي الأميركي برافعتيه: العسكرية في مواجهة روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، والاقتصادية في مواجهة الصين الصاعدة والمقتحمة لمنطقة الشرق الأوسط أمام نظر واشنطن، وعلى خواتيم المواجهة المفتوحة إثر عملية طوفان الأقصى ترتسم معالم النظام العالمي بكليته، فإما أن تسقط الأحادية القطبية بالضربة القاضية وليس بالنقاط، وإما أن تأخذ حكومة الظل الخفية بزعامة واشنطن جرعة جديدة من الأوكسجين الذي كان مخزناً في رئتي كل شهيد قضى بآلة القتل الأميركية المنفلتة من كل عقال بأيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة سواء في قطاع غزة التي تذبح، أم في الضفة الأسيرة وأراضي 48 السليبة، وكذلك في بقية دول المنطقة التي تعاني الويلات جراء الانحياز الأميركي الأعمى للعدوانية الإسرائيلية التي آن لها أن تُلْجَم، ولو جزئياً، وهذا ضمن الطاقة والمستطاع.
ــــ الإخفاق الإعلامي الذي لا يقلّ أهمية عن الفشل الذريع والمركب في السابع من تشرين الأول، حيث تبلور عجز الإمبراطورات الإعلامية المحكومة برأس المال الصهيوني عن تسويق السردية الإسرائيلية على الرغم من المستوى العالي الذي بلغه النفاق الغربي الأطلسي لتشويه الحقائق وتعميم الرواية الصهيونية لقمع الأصوات الحرة وتكميم الأفواه، لكن ذلك كله قد أخفق جراء الوحشية المفرطة التي تتعامل فيها حكومة نتنياهو وجرائمها التي لا يمكن لعقل أو ضمير أن يقبلها، وبدأت تنعكس وبالاً على أولئك القتلة.
ـــ عندما تخرج المسيرات الشعبية بعشرات، بل مئات الآلاف في المدن الأميركية والأوروبية الأطلسية ناهيك عن بقية دول العالم تنديداً بجرائم كيان الاحتلال بحق الطفولة والإنسانية فهذا يعني أن بلاد العم سام فقدت أهم عوامل استمراريتها بعد خسارة القدرة على تشكيل الرأي العام وتوجيهه بما يخدم استراتيجية التفرد والهيمنة، وهذا بحد ذاته أحد أهم منجزات ملحمة طوفان الأقصى، ويمكن أن يبنى عليه الكثير.
ــ إخفاق الموجة الجديدة من العدوانية الأميركية عبر التهديد بالبوارج والأساطيل والغواصات النووية، والتقدم خطوات ملموسة ومدروسة ومضبوطة من محور المقاومة باتجاه المواجهة المفتوحة إذا أصرّ أصحاب الرؤوس الحامية على الإمعان بوحشيتهم، الأمر الذي فرض على المايسترو الأميركي التفكير بإنزال نتنياهو عن الشجرة العالية التي تسلقها، وجاء خطاب سماحة السيد حسن نصر الله ليضع الجميع عند مسؤولياتهم، مع إبقاء القادم مفتوحاً على شتى الاحتمالات، ومحكوماً بما تعتمده واشنطن من قرارات تأخذ بالحسبان عقم المراهنة على الخوف من اكتظاظ المياه الإقليمية بأساطيل القتل والإبادة، وليس هذا فحسب، بل ورفع الصوت عالياً عبر استهداف القواعد الأميركية بشكل مباشر، والتلويح برفع مستوى الاستهداف وتفعيل زخمه أكثر في الأيام المقبلة أفقياً وعمودياً.
خلاصة
أمام هذه اللوحة المتأزمة والمتشابكة تضيق الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن، وعليها اتخاذ القرار قبل نفاد الوقت باعتماد أحد خيارين: إما إشعال المنطقة وازدياد خسارة التأييد الدولي ودفعه للاصطفاف ضدها، مع تساوي احتمالي النصر والهزيمة، وإما العمل على تدوير الزوايا وإلقاء المسؤولية على نتنياهو وحكومته المتطرفة، وهذا يعني استبدالها تفادياً لانفجارٍ لا يخدم توقيته المصالح الأميركية. وقد تحول هذا الخيار الثاني إلى ظاهرة قائمة تطالب بها جهات فاعلة داخل الكيان الإسرائيلي، أي أن اعتماده كقرار يمكّن واشنطن من المحافظة على الدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي مع إدخال بعض التعديلات الحتمية، فضلاً عن أنه يعيد لواشنطن جزءاً من المصداقية التي ما بقي منها إلا النزر اليسير، وما هو ممكنٌ اليوم قد لا يكون كذلك غداً، أو حتى بعد ساعات.