عبدالحليم قنديل يكتب.. ما بعد “باخموت”
حرب أوكرانيا كلها جرى اختصارها فى “باخموت” ، التى اكتسبت اسمها حديثا فى عام 2016 ، وكان اسمها السابق “أرتيموفسك” الذى تتمسك به روسيا ، ومنذ ستة شهور وأكثر ، تلاحقت صدامات على جبهة المدينة الشهيرة بمناجم الملح ، زادت حدتها فى الشهرين الأخيرين ، بعد لجوء القوات الروسية بأوكرانيا إلى إعادة تنظيم شاملة ، وإعادة رسم خطوط الجبهة بانسحاب منظم من غرب “خيرسون” على نهر “دنيبرو” ، والتركيز على إكمال السيطرة على مقاطعة “دونيتسك” ، مع جوارها فى مقاطعة “لوجانسك” ، والمقاطعتان معا تشكلان إقليم “الدونباس” الأغنى بثرواته ومعادنه وصناعاته ، ودارت فيه الحروب الأهلية سجالا منذ عام 2014 ، الذى شهد انقلابا مدعوما من الغرب على الرئيس الأوكرانى المنتخب وقتها “فيكتور يانوكوفيتش” ، وقد بدأ سيرته السياسية كحاكم لمقاطعة “دونيتسك” عام 1997 ، وشغل منصب رئيس وزراء أوكرانيا لمرتين ، وكان حزبه “الأقاليم” أكبر الأحزاب الأوكرانية ، وفى ذروة مظاهرات تحولت إلى صدام دموى فى “كييف” ، أنقذته روسيا من القتل ، ونقلته من قصره الرئاسى فى “كييف” إلى موسكو يوم 22 فبراير 2014 ، ثم ضمت “شبه جزيرة القرم” فى هجوم خاطف سبقه استفتاء ، ثم تطورت الحوادث إلى ما تسميه روسيا بالعملية العسكرية الخاصة التى بدأت فى 24 فبراير 2022 ، وإلى تموجاتها بين صعود وهبوط ، وإلى افتتاح عامها الثانى بالعودة إلى “دونيتسك” مسقط رأس حليفها “يانوكوفيتش” ، الذى تصدر عنه أحيانا تصريحات تطالب باتفاق سلام .
وعلى خط صدام عسكرى ممتد إلى ما يزيد على ألف كيلومتر ، بدا كأن الحرب جرى اختزال أخبارها فيما يجرى بمدينة “باخموت” ، وكأن المصائر كلها معلقة بمصيرها ، برغم أن “باخموت” ليست مدينة كبرى ، لكن التقدم الروسى فيها ، وفى بلدات أصغر إلى جوارها ، سقطت أغلبها بيد الروس ، ولم يعد سوى تتويج القتال ، وإعلان السيطرة الكاملة على “باخموت” ، المطوقة من كل جهاتها ، مع ترك منفذ وحيد مفتوح إلى الجنوب الغربى لانسحاب القوات الأوكرانية ، التى جرى إنهاكها فى المصيدة ، ولم يعد واردا عندها ، أن تستعيد السيطرة على ما فقدته فى الأحياء الشمالية والشرقية ، وبات وسط “باخموت” على بعد مئات الأمتار فقط من قوات المشاة الروسية ومقاتلى جماعة “فاجنر” ، والمشهد الختامى على مقربة أيام ، يعلن بعدها سقوط المدينة ، التى صورها الجانب الأوكرانى وحلفاؤه الغربيون ، كأنها قلعة حصينة يستحيل اقتحامها ، وكأنها رمز للمقاومة الأوكرانية التى لا تهزم ، لكن مصيرها لن يختلف غالبا عن مصير مدينة “ماريوبول” جنوب مقاطعة “دونيتسك” نفسها ، التى سقطت بيد الروس قبل شهور ، وبتكتيك الحصار والاعتصار والاقتحام المتمهل ، وإنهاء أسطورة كتائب “آزوف” القومية الأوكرانية ، وسيطرة موسكو على كامل “بحر آزوف” ، وحرمان ما تبقى من أوكرانيا من أى إطلالة عليه ، وهو المآل نفسه الذى تنتظره أوكرانيا فى الشرق ، بإنهاء أسطورة ورمزية “باخموت” ، التى يعد الاستيلاء عليها مفتاحا للتقدم الروسى إلى “سلافيانسك”و”كراماتورسك” ، وهما أهم ما تبقى بيد الأوكران من مقاطعة “دونيتسك” ، وقد لا يكون استيلاء الروس عليهما متاحا بتكنيك الاعتماد على جماعة “فاجنر” وحدها .
وفى المحصلة إلى اليوم ، يبدو سقوط “باخموت” كأنه موعد ومحطة انتقال ، إما إلى الهجوم الروسى الواسع المنتظر ، أو إلى هجوم أوكرانى مضاد ، يعده حلفاء أوكرانيا الغربيون وتخطط له واشنطن ، ويروج له الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، الذى يتصور بالوهم غالبا ، أن دبابات الغرب وطائراته وصواريخه بعيدة المدى ، قد تقلب له الموازين ، وتمكنه من تكرار هجوم الشرق الخاطف فى سبتمبر وأكتوبر الماضيين ، الذى أفقد روسيا مواقع سيطرة سابقة فى مقاطعة “خاركيف” ، وفى “كراسنى ليمان” بمقاطعة “دونيتسك” ، وقد جرى ذلك فى ظروف سابقة مختلفة ، كان عدد القوات الروسية فيها محدودا بأوكرانيا ، وكان التعويل الروسى فيها ظاهرا على الحلفاء الأوكران المحليين ، ولم تكن قد أثمرت بعد قرارات التعبئة الجزئية ، التى أضافت نحو 350 ألفا من الاحتياطى العسكرى الروسى ، جرى تدريبهم على مدى شهور ، وزاد بهم عديد القوات الروسية العاملة فى أوكرانيا لثلاث مرات ، إضافة لتغييرات فى قيادة وإدارة العملية العسكرية الخاصة ، انتهت إلى جعل مسئولية القيادة الميدانية بيد الجنرال “جيراسيموف” رئيس أركان الجيش الروسى نفسه ، والدفع بأسلحة روسية أحدث ، وبخطط مدروسة ، تتلافى الأخطاء والاستهانات التى وقعت فى العام الأول للحرب ، واعترف بها الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” شخصيا ، وكلها وجوه تصحيح مؤثرة ، قد لا تمكن التحالف الغربى من تكرار اختراقات سبقت ، أساءت لسمعة الجيش الروسى ولهيبة روسيا ، وأغرت الدوائر الغربية بتصديق إمكانية دحر روسيا فى الميدان الأوكرانى ، وكسر قرارات موسكو بالضم النهائى للمقاطعات الأوكرانية الأربع فى الشرق والجنوب ، التى تضيف أغلب أراضى “زاباروجيا” و”خيرسون” لمقاطعتى “الدونباس” ، وإقليم شبه جزيرة “القرم” ومدينة “سيفاستوبول” ، وكلها تمثل الحد الأدنى لأهداف روسيا فى الحرب الجارية ، ولا تضع موسكو سقفا زمنيا للمعارك ، ولا تبدى تململا من طول الوقت ، وإن كانت أوهامها حول سقف التدخل الغربى قد سقطت ، وتلاشت الخطوط الحمراء كلها ، وتداعت كل فرص اللجوء إلى تفاوض ، وبدت ردود فعل واشنطن وخمسين دولة حليفة على “المبادرة الصينية” موحية كاشفة ، فقد بدأت بالتحفظ عليها ، وانتهت إلى رفضها والتشكيك فى نوايا بكين ، وهو ما يعنى بوضوح ، أنه لا فرصة حتى لوقف إطلاق نار ، ولا لهدنة موقوتة ، وبات المشهد حديا وصفريا ، لا فرصة فيه لكسب سلام بدون كسب الحرب نفسها ، وهو ما قد يصوغ خطوة الروس المقبلة فى الحرب الجارية ، ولا أحد يعرف طبعا ما يدور فى رأس “بوتين” ، ولا حدود نواياه فى الهجوم الواسع ، الذى يعد له بنصف مليون جندى ، وقد يبدأ تنفيذه عقب إسقاط “باخموت” ، فأولوية موسكو معلنة فى استكمال السيطرة على “دونيتسك” وإجمالى المقاطعات الأربع حتى ضفاف نهر “دنيبرو” ، وجعل النهرخط حدود مانع طبيعي جديد لروسيا ، لكن ذلك قد لا يكون كافيا ، ما لم يكن مصحوبا باستسلام “كييف”ويأس الغرب ، وهو أمر لا يبدو مرجحا ، وقد يستلزم ضم روسيا لمناطق جديدة ، تساوم بها الغرب فى تفاوض لاحق ، كأن تكون هناك دائرة ثانية أوسع للعمل العسكرى الروسى ، تتقدم بها موسكو إلى الاستيلاء على ميناء “أوديسا” فى الجنوب ، وتغلق إطلالة الأراضى الأوكرانية على البحر الأسود ، وتستكمل الطوق إلى إقليم “تراتسنيستريا” بمولدوفا غرب أوكرانيا ، وهو سيناريو يتردد فى أوساط روسية مقربة من قصر “الكرملين” ، فيما يلوح الكرملين نفسه بسيناريو ثالث أوسع بكثير ، ويعرب عن استعداده لمواصلة الحرب إلى حدود “بولندا” ، على نحو ما قاله “ديمترى ميدفيديف” الرئيس الروسى السابق المقرب جدا من “بوتين” ، وهو المكلف على ما يبدو بتصريحات التلويح بالعصا النووية ، التى يبقى “بوتين” نوافذها مواربة ، بإجراءات الاستنفار النووى ، وبتعليق مشاركة موسكو فى معاهدة “نيوستارت” ، وبإعلان العزم على العودة إلى تجارب التفجير النووى ، ونصب صواريخ الدمار الشامل ، ربما لنشر الرعب فى قلوب الدوائر الغربية ، التى تعلن رسميا دعمها لأوكرانيا حتى آخر “سنت” ، وتقدم مئات المليارات من الدولارات وأحدث الأسلحة إلى “كييف” ، وعلى ظن مخاتل بأنه يمكن هزيمة روسيا ، وإن تواترت أمارات أمريكية وأوروبية على تراجع الثقة بانتصار أوكرانيا ، أو حتى ببلوغ هدف استنزاف روسيا ، التى تبدو مواردها كافية لتحمل تكاليف حرب طويلة ، ولم تتأثر كثيرا بآثار 15 ألف عقوبة فرضت على الاقتصاد الروسى ، الذى وجد مددا آخر لإدامة حيويته ، بالتحول إلى الشرق ، وبكسب أسواق الصين والهند وغيرهما ، وبتعميق تحالفات اقتصادية وعسكرية مؤثرة فى آسيا وإيران والمنطقة العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وبمرونة سياسية ناضجة ، لا تتوقف كثيرا عند تصويت بعضهم ضد روسيا فى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبنسج شبكات مصالح مع أطراف واقعة كرها تحت ضغوط واشنطن ، ومن دون رغبات أصلية منها فى إغضاب روسيا ومقاطعتها ، وهو ما جعل حلم واشنطن بعزل روسيا دوليا ، يبدو كسحابة صيف عابرة ، لا تمطر ولا تبقى ، لا عند صغار النظام الدولى ولا عند الكبار ، وبدليل فشل واشنطن الظاهر فى دفع اجتماع وزراء مالية مجموعة “العشرين” الأخير بالهند للتصديق على بيان لإدانة روسيا ، ومطالبتها بالسحب الفورى لقواتها من أوكرانيا ، أضف ما يجرى فى دول غرب أوربا الكبرى ، وتواتر مظاهرات شعبية فى لندن وباريس وبرلين وغيرها ، تطالب بوقف سيل الدعم المالى والعسكرى لأوكرانيا ، الذى يضاعف أزمات الاقتصاد الأوروبى ، ومن دون أن يردع روسيا .