جمعوا بين موائد الروم والفرس والمغني زرياب يؤسس المطبخ الأندلسي المغربي..اعرف فنون الطهي في الحضارة الإسلامية
المطبخ في حضارة الإنسان مرآة للوضع الاقتصادي؛ فكلما مالت الحياة إلى البدائية والبساطة أثّر ذلك في مطاعم الناس، وكلما مالت الحياة إلى التعقيد تلوّنت موائدهم. ولقد كان طعام العرب في البادية مشابهًا لحياتهم البريّة جافًّا وقاسيًا، قليل التزويق والمعالجة خاليا من التعقيد، فقائمة طعام العربي في باديته ليست إلا إحصاء لما يحيط به من النباتات والحيوانات.
وفي هذا المقال؛ ندعو القارئ ليذوق معنا -بـ”لسان” عقله- طيبات ما وقفنا عليه من مطالعات فنون الطهي عند المسلمين، ندعوه إلى مائدة تضم ألوانًا من الأخبار والأفكار المتعلقة بالمطبخ العربي وتطوره عبر القرون، من أيام الجاهلية وصولًا إلى آخر ما طالعناه من كتب الطبيخ في القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
مائدة فقيرة
عاشت أغلبية العرب في بيئة صحراوية مجدبة؛ ولذلك فإن غاية ما عرفوه من صنعة الطعام: “الثريدُ” وهو خبز يُفتّ ويبلّ بالمرق ويوضع فوقه اللحم؛ والشواء الذي منه ما يُشوى على الحطب والفحم، ومنه ما يُشوى على الحَجَر المُحْمَى بالنار، وهذا الأخير يسمونه “المَرْضوف”.
ومن ذلك طائفة من الوجبات التي تتشابه في بساطتها كما تتشابه في الصيغ الصرفية لأسمائها، حتى قال فيها أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘فقه اللغة وسرّ العربية‘: “وأطعمة العرب على [وزن] ‘فعيلة‘ كالسخينة والعصيدة.. والحريرة”؛ وكذلك الهريسة و”المَضيرة” وهي طبخ اللحم باللبن الماضِر أي الحامض.
وأما “الحَريرة” فيُعرِّفها مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) -في ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘- قائلا: “الحريرة: الحَسا المطبوخ من الدقيق والدسم والماء؛ وقد تكرر ذكر الحريرة في أحاديث الأطعمة والأدوية”. وقد تطورت الحريرة مع التحضّر حتى أصبحت بصورتها الحالية التي يتفنن فيها المغاربة ويقدمونها على موائد إفطارهم الرمضانية.
ومن تلك الأطعمة البسيطة أيضا “الخَزِيرة”؛ وعن طريقة تحضيرها والفرق بينها وبين العصيدة يقول ابن منظور (ت 711هـ/1311م) في ‘لسان العرب‘: “الخزيرة والخزير: اللحم.. يُؤخذ فيُقطّع صغارا في القِدْر، ثم يُطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أُمِيَت طبْخاً ذُرَّ عليه الدقيق فعُصِد به، ثم أُدِم بأيّ إدام شِيءَ. ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة”.
ولم يكن العرب يعدلون باللحم شيئًا إذا توفروا عليه، ويرون أن تناوله مع غيره تطويلٌ لا موجب له؛ فقد جاء في ‘محاضرات الأدباء‘ للراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) أنه “قُدّم إلى أعرابي خبز عليه لحم، فأكل اللحم وترك الخبز وقال: خذوا الطبق”!
ويروي ابن قتيبة الدِّينَوري (ت 276هـ/889م) -في ‘عيون الأخبار‘- أنه “قيل لأعرابي: ما لكم تأكلون اللحم وتدعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن (= راحل) والثريد باقٍ”!! وكان أطيب اللحم لديهم ما اختلط بعظم، حتى قال قائلهم إن “أطيب اللحم عُوّذُه، أي أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به”؛ كما يقول الدينوري.
طعام اضطراري
ثم اعلم أن ما قدمنا ذكره من الأطعمة ليس من القائمة المعتادة وإنما هو طعام الموسرين من الحضر ومَن أخصبَ من أهل البادية، فإذا أجدبوا فإنهم يأكلون كلّ ما دبَّ ودَرَج؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ أيضا أن مدنيا سأل أعرابيًا: “ما تأكلون وما تدَعُون؟ قال الأعرابي: نأكل ما دبّ ودَرَج، إلا أم حُبَيْن (= الحِرْباء)”! يقال إن الجوع أطيب التوابل؛ ولذلك ففي حالة الجدب يأكل العربي ما تيسر له، حيث يكون تناول الطعام سبيلًا للنجاة لا مادة للتفكّه.
ولتكرر مواسم الجدب؛ اكتسب العربي عاداتٍ غذائية فريدة، أولاها المبادرة في اللقم؛ فالدينوري يروي أنه سُئل أعرابي: “ما تُسمُّون المرق؟ قال السَّخين، قيل له فإذا برد، قال لا نتركه يبرد”!
كما أنهم كانوا يستقبحون أطعمة أنَفَةً منهم، ومن ذلك مخّ الخروف؛ فقد “قيل لأعرابيّ أتُحسِن أن تأكل الرأس؟ فقال: نعم، أبخص (= أقتلِع) عينيه، وأسحي (= أقشّر) خديْه، وأفكّ لحييْه (= فكّيْه)، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه”!
فإن أدركتكَ شفقةً عليهم –عزيزي القارئ- فأبشّرك بأنهم لم يكونوا يشعرون بتعاستهم، لأنهم لم يعرفوا غيرها، وإنما تجري التعاسة مع المقارنة ووجود البديل.
وقد سُئل أحد بني أسد عن معيشتهم في البادية، فأجاب سائله جواب الراضي: “طعامنا أطيب طعام وأهنؤه وأمْرَؤه (= أطيبه)، الغثّ (= نوع من الخبز)، والهَبِيد (= حب الحنظل)، والفَطْس (= حبّ الآس)، والعَنْكَثُ (= نبات)…، والعِلْهِز (= دم الجمل ووبره المشوي)، والعراجين (= نوع من الكمأة)، والضِّباب (= جمع ضبّ)، واليرابيع والقنافذ والحيات؛ فما أرى أن أحدًا أحسن منا عيشًا وأرضى بالًا”!!
وقد وجد الشعوبيون من الفرس في هذا مطعنًا على العرب، حتى قال كاتبهم الوزير الساماني محمد بن أحمد الجَيْهاني (ت 375هـ/986م) إن العرب “يأكلون اليرابيع والضِّباب والجرذان والحيات..، وكأنهم قد سُلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أُهُبَ (= جلود) الخنازير، ولهذا كان كسرى يسمّي مَلِكَ العرب ‘سَكَان شاه‘، أي ملك الكلاب. وهذا لشبههم بالكلاب وجرائها والذئاب وأطلائها (= أولادها)”.
ردود مفحمة
وقد سطر لنا أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) ردًّا مُفحِمًا على صاحبنا الجيهانيّ الشُّعوبي؛ فقال: “أتُراه لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي الموامي كلُّ كسرى في الفرس، وكل قيصر في الروم، وكل بَلَهْوَر (= لقب ملوك الهند) كان بالهند، وكل خاقان (= لقب ملوك الترك) بالترك، ما كانوا يعدون هذه الأحوال، لأنه من جاع أكل ما وجد، وطعِم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حبًا للحياة وطلبًا للبقاء، وجزعًا من الموت وهربًا من الفناء…؛ أترى [كسرى] أنوشروان (ت 579م) إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبَرّ وَبَارٍ (= قبيلة يمنية) وسفوح طيبة ورمْل يَبْرين..، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان، وما كان يشرب بول الجمل.. وما أسِنَ في تلك الوهْدات؟!”؛ قلنا: بلى والله!
وقد سبق أبا حيان وعيُ بعض الأعراب بالزمن الحضاري في الجواب على هذه المقولات؛ ففي ‘أدب الكاتب‘ لأبي بكر الصولي (ت 339هـ/950م) خبر مناظرة بين فارسيّ وعربيّ عند الوزير العباسي الفارسي يحيى بن خالد البَرْمَكي (ت 190هـ/806م)، حيث يقول الفارسيّ: “ما احتجنا إليكم قطُّ في عمل ولا تسمية، ولقد ملكْتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمّينا، ما غيرتموه! فقال الأعرابي: اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها، [فإننا بعدها] لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم”!
ومع ذلك كله كان العربيّ عنيدًا كعادته في الدفاع عن ذائقته في الطعام، لا يعدم حيلة في الذبّ عنها؛ فقد حكى الدِّينَوَري أنه “أُدخِل أعرابي على كسرى ليتعجب من جفائه وجهله، فقال: له أي شيء أطيب لحمًا؟ فقال: الجمل..، فقال كسرى: كيف يكون الجمل أطيب من البَطّ والدجاج والفِراخ والدُّرّاج (= نوع من الطيور) والجِداء (= جمع جَدْي)؟ فقال الأعرابي: يُطبخ لحم الجمل بماء وملح، ويُطبخ ما ذكرتَ بماء وملح؛ حتى يُعرف فضل ما بين الطعمين”! وأنت إذا أكلت لحم الجمل بانت لك حجة صاحبنا الأعرابيّ، فإنه من أطيب اللحوم ويستقلُّ بنفسه عن التوابل والمطيبات.
وقد يلين مزاج العربيّ فيُفيد من زيارته لقصور الملوك، ويعود لقومه بوصفة طيّبة كحلوى “الفالوذَج”؛ فأول من نقلها إلى العرب -بعد أن تناولها على مائدة كسرى- الزعيم القرشي عبد الله بن جدعان (ت 592م)، فأخذ معه غلامًا من الفرس ليصنعها له في مكة فكان يعدّها ويدعو الناس إليها. وقد حفظ لنا وصفتها الشاعر أمية بن أبي الصلت (ت 5هـ/627م) في قوله في شعره إنها “لُباب البُرّ يُلْبَك بالشِّهاد”؛ فهي بُرّ يُخلط به العسل.
بيد أنه لم يكن يتقدم التمرَ عندهم شيءٌ من الحلويات لأنه لا توجد حلوى تتجاوز البطن وتصل إلى الكعب سواه، قال بعضهم: “تمرنا جرد فطس، يغيب فيه الضرس، كأن نواه ألسنة الطير، تضع الثمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبيْك”!
وقد بقيت هذه العقيدة الذوقية لدى الأعراب راسخة لا يزحزحها شيء؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ عن الإمام اللغوي أبي عمرو بن العَلاء البصري (ت 158هـ/776م) أن الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) قال “لجُلّاسه: ليكتب كل رجل في رقعة أحب الطعام إليه، ويجعله تحت مصلّاي (= سجادتي)؛ فإذا في الرقاع كلّها: الزبد بالتمر”!
وكان الإصرار على أكل بعض ألوان الطعام واعتيادها يوجب سخرية من أصحابها، وقد تشتهر قبيلة بأكلة فتعيَّر بها؛ فقد كانت قبيلة مُجاشع بن دارم تعاب بـ”الخَزيرة”، وهي -كما سبق ذكره- حَساء من لحم ودقيق، كما عُيّرت قريش بـ”السخينة” (= نوع من الحساء) حتى هجاهم حسان بن ثابت (ت 50هـ/671م) بقوله: زعمتْ سخينةُ أنْ ستَغلِب ربَّها ** ولَيُغْلَبَنّ مُغالِبُ الغَلّابِ!