كتابنا

د. محمد السعيد إدريس يكتب: القمة العربية وأسئلة التحدى

د. محمد السعيد إدريس يكتب: القمة العربية وأسئلة التحدى

كثيرون من ذوى الاهتمام بالشأن العام الوطنى والعربى لا يبدون اكتراثاً بمؤتمر القمة العربية الذى بدأ أعماله اليوم الثلاثاء ويستمر لغدٍ الأربعاء بالعاصمة الجزائرية، لأسباب كثيرة أبرزها وجود وعى عربى، أخذ يفرض نفسه فى السنوات الأخيرة ، مفاده أن مؤسسة جامعة الدول العربية وغيرها من مؤسسات العمل العربى المشترك لا تتعامل بالجدية الكافية من أجل تحقيق الأهداف العربية العليا التى فى مقدورها استعادة وحدة الأمة، وإدراك هذه الغالبية العربية أن هذه المؤسسات الرسمية العربية هى جزء من الأزمات العربية، إن لم تكن على رأس أسبابها، وأن التحديات التى تواجه الأمة تفوق كثيراً قدرة هذه المؤسسات على التصدى لها .
هذا الإدراك فرض نفسه بجدية، حتى على دوائر صنع القرار العربى نفسه، وبالأخص منذ أن اعتذرت المملكة المغربية عن استضافة القمة العربية التى كان مقدراً انعقادها فى الخامس والعشرين من يوليو 2016، حيث كانت الأزمات العربية سواء المستحكم منها والتاريخى وبالتحديد القضية الفلسطينية، أو المستحدث منها وخاصة الأزمات السورية والليبية واليمنية، قد وصلت إلى ذروتها، وكان عجز وفشل النظام العربى قد وصل إلى منتهاه. كشف هذا العجز بيان الاعتذار المغربى عن استضافة القمة العربية عندما نص على أن المملكة المغربية “لا تريد أن تعقد القمة بين ظهرانيها، دون أن تسهم فى تقديم قيمة مضافة فى سياق الدفاع عن قضية العرب والمسلمين الأولى، وهى قضية فلسطين والقدس الشريف، فى وقت يتواصل فيه الاستيطان الإسرائيلى فوق الأراضى الفلسطينية المحتلة ، وتنتهك فيه الحرمات، ويتزايد فيه عدد القتلى والسجناء الفلسطينيين”.
يومها اختتمت المملكة المغربية اعتذارها بتحديد المسار المطلوب نهجه من جانب القادة العرب، وهو “عقد قمة للصحوة العربية، ولتجديد العمل العربى المشترك والتضامن باعتباره السبيل الوحيد لإعادة الأمل للشعوب العربية”. لكن هذه الدعوة لعقد “قمة للصحوة العربية” تبددت صداها فى صحراء عربية قاحلة تكشفت معالمها فى القمم العربية الشكلية التى عقدت منذ أن تحملت موريتانيا مسئولية ستر عورات النظام العربى واستضافت القمة العربية التى اعتذرت عنها المغرب فى 25/7/2016. عقدت قمم عربية عامى 2017 و2018 لمدة يوم واحد فقط عبر أحداث بروتوكولية لا أكثر ولا أقل، ثم تأجل انعقاد القمة على مدى ثلاث أعوام مضت منذ عام 2019 والسبب المعلن هو الخوف من تداعيات وباء “كوفيدا – 19”.
واليوم، مع التئام شمل القمة العربية فى الجزائر بعد جهود مضنية بذلتها السلطات الجزائرية ، وعلى رأسها رئيس الجمهورية الرئيس عبد المجيد تبون تأمل الجزائر أن تكون هذه القمة المؤجلة “قمة للصحوة العربية”، خصوصاً بعد أن نجحت الجزائر فى جمع شتات الفصائل الفلسطينية المتناحرة، خاصة حركتى “فتح” و”حماس” منذ 15 عاماً، وإنجاز “اتفاق مصالحة” حمل اسم وثيقة “إعلان الجزائر” مساء الخميس (13/10/2022) فى ختام مؤتمر “لم الشمل من أجل تحقيق الوحدة الفلسطينية” الذى استضافته العاصمة الجزائرية .
موعد انعقاد القمة العربية أرادته الجزائر متطابقاً مع احتفالاتها بتفجر ثورة التحرير الجزائرية بكل ما يعنيه ذلك من رمزية توحى بصلابة الموقف وإرادة النصر، فإلى أى مدى يمكن أن تحقق هذه القمة رهان الأشقاء فى الجزائر؟
قد لا تأتى الإجابة مرضية لكل أصحاب النوايا الحسنة، لكن لم يعد المهم الآن الإجابة على السؤال التقليدى الذى يلاحق انعقاد كل قمة عربية القائل: هل فى مقدور القمة أن تكون على مستوى التحديات؟ لأن هذا السؤال وإجابته تجاوزتهما الأحداث المتلاحقة على كل المستويات الوطنية داخل كل دولة عربية، وعلى المستوى العربى العام إلى جانب التطورات الإقليمية والعالمية.
هذه الأحداث والتطورات المكثفة المفعمة بالتحديات، باتت تفرض علينا نحن المواطنين فى كل دولة عربية أن نشارك معاً فى الإجابة على السؤال الأهم وهو كيف لنا أن نكون على مستوى هذه التحديات التى لم تعد تترك لنا فرصة للإختيار بين أن نعمل أو لا نعمل .
ربما يسأل سائل، وعن حق ، كيف لنا أن نعمل معاً كدول عربية وفق طموح لإنجاز أجندة عمل عربية مشتركة ونحن نعانى التمزق والانقسام والتناحر الداخلى، أى داخل كل دولة عربية للدرجة التى أخذت تمزق ما يعرف بـ “الهوية الوطنية الجامعة الموحدة”. قد يكون السؤال فى شكله تعجيزياً، لكنه بكل المعايير، سؤال منطقى، خصوصاً فى ظل تلازم ثورة التكنولوجيا الهائلة وعلى الأخص فى مجال الاتصالات مع ثورة العولمة بما تتضمنه من أيديولوجية الرأسمالية المتوحشة التى تستهدف “كسر عظام الأمم والشعوب” وإبادتها لصالح ما يعتبرونه “المليار الذهبى” أى مليار البشر الذين يحق لهم تسيد العالم والسيطرة عليه باسم “الحضارة الغربية الرأسمالية” . فى ظل هذا التلازم نواجه نحن أبناء الأمة العربية ، كغيرنا من أمم وشعوب العالم النامى المقهور ، تحديات تستهدف إمعان تقسيم الأمم والدول، وإمعان تذويب هوياتها الوطنية والقومية لصالح هوية عالمية، أو “هويات افتراضية” تتراقص على هوامش الهوية الحضارية الغربية وتدين بالولاء لها، على حساب هوياتها الوطنية والقومية، الأمر الذى من شأنه إعاقة، إن لم يكن منع وإفشال، أى جهود تستهدف بلورة هويات وطنية مستقلة، أو هويات قومية خاصة تجمع أوطاناً متعددة متغلغلة الجذور فى هذه الهوية القومية الجامعة.
رغم رجاحة هذا السؤال فى هذه الأوقات شديدة الصعوبة، إلا أن الحقيقة الفعلية تؤكد الإجابة العكسية التى تقول: نعم نحن أمة عربية، بمقدورنا أن نؤسس لهوية عربية جامعة، تجمع بكل إيجابية بين الهويات الوطنية المتعددة ولا تتعارض أبداً معها، وأن جذور هذه الهوية العربية متأصلة بعمق جذور اللغة والثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة والوحدة الجغرافية العربية.
يبقى لنا أن نبحث فى كيفية بلورة هذه الهوية فى مشروع عربى للنهضة لم يعد لنا خيار فى التقاعس عن إنجازه فى ظل عالم ينبئ بتحولات هائلة على مستوى هيكليته وأيديولوجياته، فى ظل مؤشرات تداعى المشروع الأمريكى وما يعنيه من احتمالات لتراجع وزن ومكانة الحضارة الغربية ومشروعها الرأسمالى أمام الصعود الآسيوى الهائل فى قدراته الاقتصادية والعسكرية والسياسية المفعم بهويات ثقافية وحضارية أخرى قادرة على المنازلة حول المكانة مع الحضارة الغربية، الصعود الصينى – اليابانى – الهندى كصعود آسيوى مدعوم بالصعود الروسى، الذى يخوض معركته الكبرى الآن ضد التحالف الأطلسى (الأمريكى – الأوروبى) للتعجيل بإسقاط النظام العالمى أحادى القطبية الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة ، يؤشر على جدية التحولات الجديدة فى العالم التى لن تترك لنا العرب فرصة للاختيار بين أن نكون أو لا نكون.
هذا هو التحدى الحقيقى الذى يواجه القمة العربية الآن وليس فقط مواجهة الأزمات العربية التقليدية التى مازال النظام العربى عاجزاً عن مواجهتها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى