د محمد السعيد ادريس يكتب :أكذوبة الدفاع عن النفس
د محمد السعيد ادريس يكتب :أكذوبة الدفاع عن النفس
لسنوات طويلة امتدت عقوداً منذ إعلان تأسيس كيان الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين عام 1947 عاش العالم، وعشنا معه، نحن العرب والمسلمين، أسرى أعنف عملية «غسيل دماغ» فى التاريخ استهدفت محو كل تاريخ فلسطين ما قبل الاحتلال الصهيونى وفرض منظومة مرتبة من الرؤى والأفكار تؤسس للواقع الجديد الذى أراده الصهاينة فى فلسطين. هذه العملية يسمونها عندهم فى إسرائيل «عملية كى الوعي» وهى عملية مزدوجة تبدأ أولاً بنزع كل ما كان موجوداً من تاريخ ورؤى وأفكار لواقع فلسطين قبل 1948، وتنتهى ثانياً بفرض منظومة بديلة من الرؤى والأفكار تؤسس لدولة «كيان الاحتلال». هكذا أرادوا أن يجعلوا إسرائيل دولة أولاً، ثم عملوا جاهدين ثانياً على جعلها دولة فوق القانون الدولى والمواثيق الدولية، بدليل أن أحداً فى العالم لم يستطع أن يفرض عليها الالتزام بأى من القرارات، التى صدرت بحقها من المنظمة الدولية، والتى تدافع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وتجلى الاستعلاء الإسرائيلى على القانون الدولى وعلى ميثاق الأمم المتحدة طيلة العقود التى مضت من عمر كيان الاحتلال، لكن ذروة الاستعلاء تجسدت فى «حرب الإبادة الجماعية»، التى تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، منذ هجوم «طوفان الأقصي» الذى هز بعنف مصداقية وجود كيان الاحتلال ومستقبله، وأصاب جيشه «الذى لا يقهر» بأسوأ انكسار فى تاريخه، وأطاح، إلى غير رجعة، بأكذوبة أن إسرائيل هى «القوة العظمى الأحادية فى الشرق الأوسط» . فقد برر الإسرائيليون من قادة عسكريين وسياسيين حرب الإبادة هذه بأنها تأتى ضمن «حق الدفاع عن النفس». وأيدتها الولايات المتحدة فى ذلك، عندما تحدت العالم كله فى مجلس الأمن ورفضت تمرير مشروع قرار قدم إلى المجلس يطالب بوقف القتال فوراً فى غزة، حماية لأرواح الملايين من المدنيين، وكان المبرر الأمريكى هو ذاته المبرر الإسرائيلى هو أن إسرائيل تعرضت لعدوان إرهابي، حيث إن «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) جرى توصيفها أمريكياً بأنها «منظمة إرهابية» مثلها مثل كل من يرفع شعار المقاومة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي. وعندما نجحت دولة جنوب إفريقيا «الرائعة» فى رفع قضية ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية تتهمها بشن «حرب إبادة جماعية» ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، قال وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن خلال جولته الرابعة فى الشرق الأوسط (9/1/2024) إن دعوى الإبادة الجماعية التى أقامتها جنوب أفريقيا على إسرائيل «بلا أساس» . وقال إنه «من الضرورى أن تحقق إسرائيل هدفها، وألا يتكرر ما حدث فى السابع من أكتوبر 2023»، بمعنى خلق واقع «أمنى ــ عسكرى» فى قطاع غزة يحول نهائياً دون ظهور حركة مقاومة ضد إسرائيل مرة أخري. هذا المعنى له امتداداته الشديدة الأهمية بالنسبة للتطورات الأمريكية لما يسمى «سيناريوهات اليوم التالي»، أى اليوم الذى سيلى وقف الحرب فى غزة، وأين ستكون إسرائيل وكيف سيكون قطاع غزة ومن سيملك قرار السيطرة والتحكم فى إدارته وحكمه
هذا الموقف الأمريكى الذى يتبنى الموقف الإسرائيلى الذى يعطى لكيان الاحتلال ما يعرف فى القانون الدولى بـ «حق الدفاع عن النفس» تكرر على لسان رئيسة الوفد الأمريكى فى الأمم المتحدة «ليندا توماس جرينفيلد» رداً على مشروع القرار الجزائرى المعروض على مجلس الأمن الذى يطالب المجلس باتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات لتنفيذ الحكم الصادر بحق إسرائيل من محكمة العدل الدولية. فقد تحدت الإرادة الدولية وأفادت بأن قرار محكمة العدل الدولية «يتسق مع وجهة النظر الأمريكية بأن لإسرائيل الحق فى أن تتخذ إجراء، وفقا للقانون الدولى الإنساني- لضمان عدم تكرار الهجمات الإرهابية التى وقعت فى 7 أكتوبر 2023». ما يعنى أن لإسرائيل «حق الدفاع عن النفس»، والحق فى أن تفعل كل ما تشاء وما تراه ضرورياً لحماية أمنها، حتى لو كان إبادة الشعب الفلسطينى أو إجباره على «الهجرة القسرية» إلى خارج بلاده، أو حتى نفيه إلى «جزيرة صناعية» تبنى فى البحر المتوسط على غرار اقتراح لوزير الخارجية الإسرائيلى الحالي. كل هذا يقودنا إلى السؤال الجوهرى وهو: هل لإسرائيل حق الدفاع عن النفس ضد هجوم من قوى المقاومة الفلسطينية؟
السؤال شديد الأهمية الآن وللإجابة عنه يجب أن نعود إلى أمرين شديدى الأهمية ؛ أولهما: هل إسرائيل دولة طبيعية، مثل كل الدول، أم أنها دولة «ناقصة الأهلية» وأن عضويتها فى الأمم المتحدة مرتبطة بشروط جرى تحديدها فى قرارات صدرت عن الأمم المتحدة؟
ثانيهما: حقيقة أن إسرائيل «دولة احتلال» أى أنها دولة تحتل «دولة فلسطين» وفقاً للقانون الدولي، وأنها باعتبارها «قوة احتلال» ملزمة بحماية شعب الأرض المحتلة، وأن هذا الشعب له الحق القانوني، ليس فقط فى الدفاع عن النفس ، بل الحق فى المقاومة وتحرير أرضه، والحق فى الاستقلال وتقرير المصير. ومن ثم فإنه لن يكون إرهابياً أو مداناً قانوناً عندما يقاتل من أجل تحرير أرضه المحتلة. وهذا يعنى أن محاربة إسرائيل للشعب الفلسطينى فى أرضه المحتلة هى «حرب إرهابية» وليست دفاعاً مشروعاً عن النفس بأى صورة من الصور.
إسرائيل التى حصلت على «عضوية مشروطة» فى الأمم المتحدة ، وفقاً للتوصية رقم 69، بشرط أن تقوم بتنفيذ توصية قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لعام 1947 إلى دولتين: إسرائيلية وفلسطينية، وأن تحترم ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذى يثير التشكك فى جدية الاعتراف الدولى بها لعدم التزامها بذلك القرار، لكن الأهم أنها فقدت وجودها القانونى بعد صدور القرار 1514 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960 القاضى بتصفية الاستعمار بجميع صوره وأشكاله، باعتبار أن الاستعمار عدوان على حقوق الإنسان ومن ثم أضحى استعمار شعوب العالم جريمة من جرائم القانون الدولي.
ولما كانت إسرائيل تُعد شكلاً من أشكال الاستعمار زرعها الاستعمار البريطانى فى فلسطين فإنها باتت فاقدة لـ «حق الوجود الشرعى»، وليس فقط حق الدفاع عن النفس