عاتق البلادي.. المؤرخ الجغرافي…كيف سجل اسمه بالمكتبة السعودية والعربية كمرجع مُهم للأدباء والرواة
عاتق البلادي.. المؤرخ الجغرافي…كيف سجل اسمه بالمكتبة السعودية والعربية كمرجع مُهم للأدباء والرواة
يعد عاتق البلادي أحد أعلام التاريخ الجغرافي في المملكة والذى استطاع يرسخ اسمه في سجلات المكتبة السعودية فهو مرجع مصدر لكثير من الباحثين والمؤرخين وطلاب العلم والأدباء والرواة في الشعر الشعبي.
وعاتق البلادي شخصية غنية بالعلم والدرس والعمق في البحث، ومع هذا فهو بشر يخطئ ويصيب ، ونشاهد من مؤلفاته التي لم تنشر مخطوطاً يضم نخبة من الرسائل تصحح ومستدرك من القراء بعنوان رسائل ومسائل في الأنساب والتاريخ والجغرافية، يقول -رحمه الله-: “ترسل إلي رسائل كثيرة بعضها يصحح وبعضها يسأل فرأيت الفائدة في نشرها”، باختصار البلادي “موسوعة في رجل”.
صبا وطفولة
وُلد عاتق البلادي عام 1352هـ في شمال مكة في موقع يدعى “مسر” بسفح جبيل يدعى أبيض، ونشأ في هذه الواحة، وكان والده من الرواة والأخباريين كما يذكر عاتق في كتابه القيم والممتع والمسلي (طرائف وأمثال شعبية)، ومنه تأثر بوالده في حب الأدب الشعبي وحفظ الأشعار ورواية الأخبار والقصص والحكايات، واستمر هذا في حياته، ويتضح ذلك جلياً في كتابه (طرائف وأمثال شعبية) وكتابه (أخلاق البدو) و(الأدب الشعبي في الحجاز) وفي أحاديثه في مجالسه، فهو حافظ ورواية متقن.
رحلة إلى مكة
وذكر أحمد الأحمدي رحلة عاتق البلادي ومعه أخيه عطية الله إلى مكة روايةً على لسان البلادي، تلك الرحلة لعلها أول رحلة قطعها في حياته، يقول عاتق: “عندما توفي والدي وكان من سكان قرية خليص قررت أنا وأخي عطية أن نسافر إلى مكة للعلم والعمل في أعمالها، وعند سفرنا وعلى مسافة 40 كم حل بنا المغرب قررنا المبيت في الخلاء وأشعلنا النار للتدفئة، وكان الوقت بارداً في الشتاء وبفعل الرياح نقلت النار للأعشاب المحيطة بنا وأصبحت النيران تحيط بنا من كل جهة وخفنا وأخذنا في الصراخ وسمعنا سكان بيوت شعر غير بعيدة عنا، سارعوا إلينا وهدوا من روعنا وأنقذونا بطريقتهم ثم استضافونا”.
ثم يسترسل عاتق ذكريات الشباب قائلاً: “وفي الصباح واصلنا سيرنا إلى مكة وعند مدخلها جاءنا الليل وبيتنا في سفح جبل على مقربة من رجل يبيع في عشه، ونمنا من التعب، وفي آخر الليل إذ بأحدهم يحاول أخذ الحقيبة، والتي فيه “دريهمات” قليلة، وهنا صرخت وولّى السارق هارباً، لكن ألحقته حجراً في ظلمة الليل وفي الصباح شاهدنا دمه” -انتهى كلامه-.
كسب القوت
وهبط عاتق البلادي -رحمه الله- هو وأخوه إلى مكة لأجل العمل وكسب الرزق في الستينات الهجرية، وكان ومجيئه 1364هـ/ 1944م، وقد فصل في مذكراته رحلته هذه من خليص إلى مكة، وماذا حدث لهما؟، وذكر جزءاً من رحلته هذه الباحث مهدي القرشي في صحيفة “غران” وقصته مع زياد وأم زياد التي عطفت على عاتق وأخيه واعتبرتهما مثل ابنها زياد، وكانت تعد لهما وجبة الغداء والعشاء، لكن زياداً هذا توفي فجأة ثم توفي شقيق عاتق فيما بعد، فكانت فاجعة لعاتق، والمقصود أن زياداً هو الذي فتح لهما باب عمل بأجرة يومية، يقول البلادي في مذكراته: “كان زياد شاباً تظهر عليه عناية أمه، تغذية ولباسا؛ ولأنه ابنها الوحيد قال زياد: والكلام لعاتق: أنا مالي إخوان، أنتم إخواني، أما أنا فراقت لي الفكرة، لكن أخي لم ترق له الفكرة”، ومن هذه اللحظات أصبح زياد هذا وأمه أهلاً لعاتق وأخيه عطية الله، وسخر الله هذا البيت الطيب فكانوا لهما بمثابة الأهل في غربتهم مكة حتى مات زياد وكذلك عطية الله -رحمهما الله-.
استيعاب سريع
وكان عاتق البلادي -رحمه الله- عنده استعداد فطري للعلم والتحصيل، ومكة بلد العلم والعلماء، وبها مدارس نظامية، دخل المدرسة الليلية يقول في مذكراته التي نقلها مهدي القرشي: “ذهب بنا محمد الوهيبي إلى الشيخ صالح الميرابي إمام المسجد ومدير المدرسة الليلية الخيرية الأولى في جرول من مكة المكرمة، فعرض عليه إدخالنا -أي عاتق وأخيه- المدرسة، فإذا المدير يندهش من طلبه فيقول: يا وهيبي لم يبق على نهاية السنة إلاّ شهر، فقال الوهيبي: ما نبيهم ينجحون، حنا نبينهم يستفيدون، وبدأ عاتق وأخوه في تلقى الدروس بهذه المدرسة، وفيها القرآن الكريم، وكانا يحفظان كل ما يلقيه الأساتذة، وجاء يوم الامتحان وأصبح عاتق هو الأول على فصله، وهذه أعجوبة واستيعاب سريع ونباهة مبكرة وقوة استحضار منه، فلم يمضِ على دخوله المدرسة إلاّ شهر واحد ومع ذلك تفوق على زملائه الذين أمضوا سنة كاملة في تلقي الدروس، وقد درس عاتق البلادي بالمعهد العلمي السعودي سنة ونصف لكنه لم يكمل”.
وتلقى عاتق البلادي العلم في حلقات المسجد الحرام، فكان مواظباً على هذه الحلقات ومكث على ذلك مدة من الزمن.
عسكرياً في الجيش
وانضم عاتق البلادي -رحمه الله- إلى الجيش العربي السعودي 1372هـ، حيث رحل إلى الطائف وعين برتبة نائب كاتب وتدرج في الرتب العسكرية، ثم درس في مدرسة المشاة وتخرج فيها برتبة وكيل ضابط، وفي هذه الأثناء ذهب مع اللواء السعودي إلى الأردن تعزيزاً للجيش الأردني أثناء العدوان الثلاثي على قناة السويس، ثم انتقل بعد ذلك إلى سلاح الحدود، ثم طلب التقاعد المبكر، وكانت آخر وظيفة له رئيس المجلس العسكري بسلاح الحدود بجدة وتقاعد 1 /11 /1397هـ، ولا ينسى عاتق البلادي هذه المرحلة من حياته، فهو مؤرخ ومدون وعندما سئل عن ذكرياته في العسكرية وما هي التجربة التي خرجتهم بها، أجاب: “هذه الذكريات لو كتبتها لملأت مجلداً، منها الحلو جداً والمر جداً، ومنها ما بين ذلك، لكن الحقيقة أنني مدين للعسكرية بكل ما أنا فيه الآن من فكر وعقل ومنطق ومنهج، فمنها تعلمت الحزم والنظام في العمل، ورسّخ العمل العسكري في نفسي مبادئ الصدق والأمانة والشرف”.
حصاد الأيام
وكتب عاتق البلادي -رحمه الله- مذكراته بعنوان (حصاد الأيام) وهي ثلاثة أجزاء كما ذكر هذا عاتق في فهرس مؤلفاته في آخر موسوعة بعنوان (الإشراف على تاريخ الأشراف)، وهي ما زالت مخطوطة وطرح فيها تجربته العسكرية وحياة الصبا والطفولة والشباب ومرحلته العلمية، وقد أخبرني حسين بن عاتق البلادي أنها جاهزة للطبع، وليتها تطبع سريعاً وينهل القراء من تجارب هذا العالم المؤرخ الموسوعي الأديب، فقراءة المذكرات والسير الذاتية تطور الذات وتضيف للقارئ عقولاً إلى عقله، وليست كل سيرة ذاتية مفيدة ونافعة مؤثرة، بل هناك مذكرات لا تستحق مجرد القراءة، بل هي إضاعة للوقت، لكن سيرة العباقرة والعلماء والقادة ورجال الفكر وأرباب التجارب السياسية والاجتماعية وكذلك المخترعين هي التي يحرص عليه القارئ ويقرأ منها ويدوّن منها تلك التجارب والخبرات ومنها مذكرات عاتق البلادي -رحمه الله-.
حياة علمية
وتحدث د. محمد بن حسين الحارثي الشريف عن حياة عاتق البلادي العلمية، موضحاً معالم شخصيته، وهو بهذا يشخّص حياة هذا العلامة الكبير الذي اعتكف في محراب العلم والدرس طيلة ثلاث عقود لا يشغله عن العلم والبحث أي شيء من الدنيا، لذلك يقول الحارثي: “عاتق بن غيث البلادي الحربي، أديب، مؤرخ، جغرافي، رحالة، نسابة، شاعر، ولد في بادية شمال مكة المكرمة في مكان يدعى “مسر” بسفح جبل يدعى أبيض 1352هـ، وفيها نشأ ودرس في مدارس مكة المكرمة النظامية، غير أن تركيزه كان على الدراسة في المسجد الحرام، فأخذ عن مشايخ فضلاء، وقد تحصل على دبلوم في فن الصحافة من معهد دار عمان العالي، أسس دار مكة للنشر والتوزيع التي كانت تنشر مؤلفاته العلمية وغيرها، ترجم كتابه (المعالم الجغرافية في السيرة النبوية) إلى اللغة الأردية، وحصل على جائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية 1421هـ، وأطلقت أمانة محافظة جدة اسمه على أحد شوارع جدة 1425هـ تقديراً لجهوده وإسهاماته في خدمة الأدب والعلم.
ويُعد عاتق البلادي -رحمه الله- أحد أبرز الرموز الفكرية في المملكة العربية السعودية، وعلامة مضيئة في صرح الفكر التاريخي والجغرافي في المملكة العربية السعودية، وتجاورت آثاره الفكرية المحيط المحلي إلى العالمية، أحدث حراكاً ثقافياً مع صنوه الشيخ حمد الجاسر -رحمهما الله-، أبى أن لا يساوم على الخلق العربي الإسلامي الأصيل، له كرامة يحميها من أن تخدش، لم يكن طريقه مفروشاً بالورود، بل كان مليئاً بالأشواك والمشاق، أحب القبائل العربية في الحجاز من شماله إلى جنوبه، فكتب عن تاريخها وتراثها وإنسانها، لا تخلو دراسة أكاديمية للماجستير أو الدكتوراة في كافة الجامعات السعودية والعربية في مجال تاريخ وجغرافية الجزيرة العربية عامة والحجاز خاصة إلاّ وكتب عالق البلادي من أهم مراجع هذه الدراسة”.
دار عامرة
وأضاف د. محمد بن حسين الحارثي الشريف: “لقد اعتدت على زيارة عاتق البلادي -رحمه الله- والحرص على حضور مجلسه الأسبوعي -مساء كل يوم اثنين- في داره العامرة، حي ساحة إسلام بمكة المكرمة، عشر سنوات حتى وفاته، استفدت من علمه وأدبه ومحاوراته ومناقشاته في مجالات التاريخ والجغرافيا والبلدانيات، والآداب شعراً ونثراً، سعدت بالمشاركة عضواً في تنظيم حفل الاحتفاء الكبير بعاتق من قبل عدد من أشراف الحجاز من المهتمين بالتاريخ والأنساب مساء الخميس 2 /2 /1427هـ وألقيت كلمة في الحفل، وأعددت وقدمت في الحفل عرضاً حاسوبياً -بوربوينت- لأهم ملامح شخصية العلامة الشيخ عاتق، وإجازاته، وشهاداته، ومؤلفاته، وأحب أن أؤكد على حقيقة مهمة لمستها في العلامة عاتق البلادي، وهي صفة التسامح، والتفهم من الآخرين ممن اتفقوا معه أو اختلفوا، ورفضه الغلو والتشدد في الدين، رغم اعتزازه الكبير بسنيته ونفسه وعلمه ونسبه ومكيته، ولا أزكيه على الله، أحسبه كذلك والله حسيبه”.
توثيق المعلومة
وقال بدر اللحياني: “اتصلت بعاتق بن غيث البلادي في أواخر 1420هـ، من خلال اثنينيته التي كان يقيمها بمنزله بساحة إسلام، كنت عرفته قبل ذلك بأعوام عندما دار بيني وبينه تعقيبات متوالية بصحيفة الندوة حول سوق مجنة، ولكنني لم أتقابل معه، رغم أننا جميعاً بمكة، في كل مساء اثنين كان يفتح مكتبته المنزليه لجميع الزوار بعد المغرب مباشرة، ويجلس بجوار مكتبه ويستمع للجميع ويسمعونه بكل هدوء وروية، لكن حديثه لا يخلو من دعابة لطيفة تكسر حاجز الرسمية، وأكثر ما يلفت نظر الزائر الطبعة النادرة من معجم البلدان في مجلدات خمسة كبيرة تتوسط صدر مكتبته، فما إن يطلب من رواده البحث عن مكان حتى يجد القارئ أثناء تصفحه تلك الهوامش بخطه الجميل وباللون الأحمر تقريباً في كل صفحة من هذا المعجم، ويدل ذلك على تبحره في الضبط المكاني، كان يهتم بتوثيق المعلومة توثيقاً ميدانياً ثم يطابقها مع المنطوق المحلي ويقارنها مع المصادر فتخرج المعلومة موثقة توثيقاً جيداً، واستفاد من حياة البادية التي استقى منها لغته، علمنا كيف نكون منصفين في النقد والردود بغض النظر عن الحسابات الشخصية، حيث لا يدخل الشخصنة في ردوده، وللبلادي صولات علمية بمجلة المنهل وبمجلة العرب جعلته أكثر قرباً من الصحافة وأربابها أمثال: الأنصاري والجاسر.
خزانة زاخرة
وألّف عاتق البلادي -رحمه الله- أكثر من أربعين مؤلفاً أشهرها: معجم معالم الحجاز، وهو كتاب جغرافي يقع في عشرة مجلدات، وكتاب معجم قبائل الحجاز، وهو كتاب يتحدث عن قبائل الحجاز من فجر التاريخ إلى يومنا هذا، وهو في ثلاثة أجزاء، وكتاب معالم مكة التاريخية والأثرية، وكتاب رحلات إلى بلاد العرب، وكتاب الرحلة العلمية، وكتاب بين مكة وحضرموت، وكتاب المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، وهو كتاب نفيس، ولعله أول كتاب يبحث عن المواقع التي وردت في السيرة النبوية، وكذلك كتاب على ربى نجد، وكتاب فضائل مكة وحرمة البيت الحرام، وكتاب المصحح في تاريخ مكة المكرمة، وكتاب زهرة البساتين المستدرك على نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين، هذه نماذج من مؤلفاته، والحديث عن مؤلفات عاتق يطول ويحتاج إلى دراسات وبحوث، فهو عالم موسوعي فذ، ولولا برنامجه الصارم بعد توفيق الله عز وجل لما أنتج هذه المؤلفات، حيث قال لي عبدالرحيم الأحمدي -الأديب المعروف- إن عاتق البلادي ألزم نفسه ببرنامج يومي لا يحيد عنه، وهو أنه يمكث في مكتبه من الساعة الثامنة صباحاً إلى الثانية ظهراً من حين ما تقاعد، لهذا أثمرت جهوده -رحمه الله-.
في تاريخ 2 /3 /1431هـ أديت على عاتق البلادي صلاة الجنازة بعد صلاة الفجر، ودفن في مقبرة المعلاة، وفي الختام أشكر الأخوة الكرام الذين تواصلوا معي بمعلوماتهم وهم أحمد بن سالم الأحمدي، وبدر اللحياني، والدكتور محمد بن حسين الحارثي الشريف، ومهدي القرشي وحسين بن عاتق البلادي، والشكر موصول للأديب الفاضل عبدالرحيم الأحمدي الذي أوصلني بهؤلاء الأخوة، ولقد سعدت بحديثه وذكرياته خلال مسيرته.