لماذا استوطن “وباء الطاعون” في مصر لمدة 600 سنة؟
أسماء صبحي
في عام 1350 وصل “الموت الأسود” موجة وباء الطاعون الثانية في التاريخ إلى الشرق الأوسط ومنها مصر قادماً من مكان ما في آسيا. ومنذ هذه اللحظة، ولمدة حوالي 600 سنة، ظل الطاعون وباء مستوطن في مصر يرفض أن يغادرها. يضربها في شكل موجات متعاقبة، بشكل مؤلم ومرير، لدرجة أن كثير من الرحالة الأوروبيين اعتقدوا أن مصر هي “أرض الطاعون” ومصدر نشأته فى العالم.
بداية رحلة وباء الطاعون في مصر
تبدأ رحلتنا الحديثة مع الطاعون في عام 1350 في زمن ولاية السلطان حسن بن الناصر (صاحب المسجد الشهير بالقرب من القلعة). عندما وصل إلى الشرق هذا الوباء المدمر الذي ضرب العالم القديم فقتل من بين المصريين حوالي 40% من السكان.
إن كان الطاعون انحصر بعدها، لكنه ظل طوال الوقت يأتي ليزور مصر كل ثلاث أو أربع سنوات. وساعد فى انتشار الطاعون فى مصر “المستنقعات” اللى كان بيخلفها النيل بعد “فيضانه” لتكون بيئة خصبة لـ “الفئران” و “البراغيث” الناقل الأساسي لوباء الطاعون. وكذلك أيضا مناخ مصر “الحار الرطب” الذي كان فرصة لانتشار البراغيث خلال فصل الربيع تحديدًا، مع غياب “الطب” الحديث عموما.
كان الطاعون في مصر بيبدأ ظهوره من “أكتوبر ونوفمبر” (ما بعد الفيضان)، وتصبح ذروته في “مارس وإبريل”.
أقوال الجبرتي عن وباء الطاعون
قال الجبرتي عن طاعون سنة 1791: “وزاد أمر الطاعون وقوي عمله. ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والأمراء. ومنهم “إسماعيل بك الكبير” – والي القاهرة – وعسكره، وعسكر القليونجيـة (القليوبية) وعسكر بولاق. ومـصـر القديمة، والجيزة.
ازدحم الناس على الحوانيت في طلـب المغسلين والحمالين. ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمسة والعشرة ويتضاربون على ذلك. ولم يبـق للناس شغل إلا الموت وأسبابه. فلا تجـد إلا مريضا أو ميتا، أو عائدا أو معزيا أو مشيعا أو راجعا مـن صـلاة جنازة أو دفن. أو مشغولا في تجهيز ميت، أو باكيا عـلى نفسه موهوما. ولا تنقطع صـلاة الجنائـز مـن المساجد والمصليات، ولا يصلى إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة في الصلاة الواحدة”.
وقال فى موضع آخر عن شدة هذا المرض وبطشه: “وندر جدًا من يشتكي ولا يموت. ويكون الإنسان جالسا، فيشتكي فجأة البرد، فيتدثر، ثم لا يفيق إلا ميتا أو مخالطا للموتى. ومات الأغـا والوالي، فولوا لهما خلفا، فماتـا بعـد ثلاثة أيام. فولوا خلافهما فماتا أيضـا، وكان الميراث ينتقل ثلاث مرات في جمعة واحـدة”.
تأثير وباء الطاعون على تعداد السكان
أثر هذا المرض على التعداد السكاني لمصر بشكل كبير (وسط عوامل أخرى). فكانت هناك دائما مشكلة قائمة فى مصر هي قلة عدد السكان. لدرجة إنه فى أوائل عهد محمد علي كان عدد المصريين لا يتجاوز 2 مليون ونصف المليون شخص، بما شكل مشكلة اقتصادية لمحمد علي.
بيبدأ فى عصر محمد علي تحدي نشر الطب الحديث، فيبدأ أول إجراء صحيح فى مواجهة المرض وهو “الحجر الصحي”. وسط مقاومة عنيفة من الأهالي الذين لك يكونوا يؤمنوا سوى أن المرض “غضب من الله”، ولم يفهموا فكرة الحجر الصحي.
كما كشفت الباحثة “لافيرن كونكا” فى كتابها “أرواح فى خطر” عن تصرف محمد علي مع وباء الطاعون. قائلةً: “تم وضع كل البيوت التي تظهر فيها حالات الطاعون تحت تصرف الكورنتينة لمدة 30 يوما. ويتم تبخيرها؛ وينقل المصابون إلى معزل الحميات مع حرق متعلقاتهم الشخصية. ويباشرهم الأطباء والضباط التابعون لمجلس إدارة الكورنتينة وكان يتم إطلاق الرصاص على الفور على أرباب الأسر الذين لم يقوموا بالإبلاغ عن موت أحد أفراد الأسرة بالطاعون”.
سبب انتهاء وباء الطاعون
رغم كل هذه الإجراءات الصارمة، كانت النتيجة النهائية لطاعون 1835 كارثية. فتقول سيلفيا شيفلو فى كتابها “الطب والأطباء فى مصر”. إن المرض تسبب في وفاة ما يقرب من نصف مليون شخص. وقضى على حوالي من 25% إلى 30% من سكان القاهرة والإسكندرية. وحوالي 10% إلى 12% من سكان الريف، وهو ما استلزم أكثر من 15 سنة لتعويض معدلات السكان.
وكانت آخر موجة طاعون حدثت فى 1844 وتوقف تماما الطاعون بعدها في القاهرة. لكنه ظهر من جديد فى أنحاء مختلفة من مصر – عدا القاهرة – في الفترة من عام 1899 وحتى 1932، آخر موجة طاعون في تاريخ مصر. اللطيف فى الأمر أن الباحث “شهاب فخري إسماعيل” كتب مقال اعتمد فيه على العديد من المصادر. وقال إن السبب الرئيسي لاختفاء الطاعون من القاهرة أولا، ثم من مصر كلها. هو نشر حيوان “العرسة” أو “ابن عرس”، فى داخل القاهرة ومصر على يد “محمد علي”. على اعتبار إنها العدو البيلوجي الأول لـ”الفأر” والمسؤولة عن إبادة العديد من الفئران مصدر الطاعون، وسببه الأول.