غليان دول الخليج في عام النار والدم على غزة بين حسابات إقامة العلاقات وأشواك محور المقاومة

مع دخول الحرب على غزة عامها الثاني، وتصاعد المواجهة مع محور المقاومة بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، لم تكن دول الخليج بعيدة عن تأثيرات هذه الحرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد وجدت نفسها وسط معركة معقدة بين تصاعد الميدان وتباين المصالح السياسية والأمنية، لا سيما مع دخول أنصار الله في اليمن إلى قلب المشهد، عبر ما سموه “جبهة الإسناد لغزة”.
مواقف دول الخليج من حرب غزة
منذ السابع من أكتوبر، تعددت مواقف دول الخليج بين من أعلن إدانة صريحة لحماس وعمليتها، وبين من تحفظ على الموقف وفضل إلقاء اللوم على السياسات الإسرائيلية، التي تصاعدت بعد تولي حكومة اليمين المتطرف زمام الأمور في تل أبيب.
هذا التباين الواضح بدأ يتلاشى مع تصاعد القصف الإسرائيلي في غزة، وسقوط آلاف الضحايا المدنيين، ما أدى إلى تشكّل رأي عام عربي وإسلامي رافض للمجازر، وطالب الحكومات بالضغط لوقف الحرب. ورغم الإدانة الرسمية للأعمال العسكرية الإسرائيلية، إلا أن لكل دولة في الخليج حساباتها المختلفة تجاه فصائل المقاومة الفلسطينية، خصوصًا تلك التي ترتبط بمحور المقاومة الإيراني، الذي شكّل لعقود تهديدًا مباشرًا لأمن واستقرار دول مثل السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت، على المستويين العسكري والفكري، مما تسبب في أزمات دبلوماسية ممتدة مع طهران.
احتفظت سلطنة عمان وقطر بعلاقات دبلوماسية مستقرة مع إيران، الأمر الذي مكن الأولى من لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن منذ مفاوضات الاتفاق النووي في 2015، وحتى تبادل الرسائل منذ بداية التصعيد الأخير في أكتوبر، كما أدت مسقط دورًا في تسهيل النقاش حول حل النزاع في اليمن أما قطر، فقد واصلت تحركاتها كوسيط فعال في المفاوضات بين حماس وإسرائيل، إلى جانب مصر، مستفيدة من علاقتها القوية مع الولايات المتحدة، واستضافتها للقيادات السياسية لحماس منذ عام 2012، بناءً على طلب أمريكي آنذاك. وفي ظل إعلان دول الخليج أنها ليست طرفًا في الحرب، دعت إلى وقف فوري للتصعيد، وإنهاء الحرب لحماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة.
مسار غزة والتطبيع تحت نيران الصواريخ
بدأت الاتفاقيات الإبراهيمية في 2020، بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، بينها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، برعاية إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تحت دواعٍ استراتيجية واقتصادية وأمنية ومع ذلك، لم تحقق تلك الاتفاقات أي تقدم فعلي في مسار القضية الفلسطينية، إذ لم تكن السلطة الفلسطينية طرفًا فيها، ولم تؤدِ إلى أي تنازلات إسرائيلية، رغم الوعود الدبلوماسية التي أطلقت في حينه.
سعت إدارة الرئيس بايدن، بعد فترة من التوتر مع السعودية، إلى إعادة بناء العلاقة معها، خصوصًا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ورفض الرياض زيادة إنتاج النفط وفقًا لاتفاق “أوبك بلس”. وتحركت واشنطن، منذ بداية عام 2023، نحو إبرام اتفاق تطبيع تاريخي بين السعودية وإسرائيل، لتحقيق مكسب سياسي للرئيس في الانتخابات، وهو ما انسجم مع رؤية السعودية لبناء دولة مستقرة اقتصاديًا وسياسيًا ضمن رؤية 2030.
أعادت الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في أبريل 2023، برعاية صينية، في ما عُرف بـ”اتفاق بكين”، دون الحاجة للتدخل الأمريكي، وأدارت محادثاتها مع واشنطن حول التطبيع، بناءً على شروط محددة، من بينها تحالف دفاعي، وتطوير برنامج نووي مدني، مع ضرورة وجود مسار جدي لإقامة دولة فلسطينية، وفقًا لما عبّر عنه المسؤولون السعوديون، وما نصّت عليه المبادرة العربية.
لكن عملية السابع من أكتوبر، والحرب على غزة، دفعت كل الأطراف إلى إرجاء اتفاق التطبيع، وسط تصعيد متسارع في الإقليم، وتعاطف شعبي واسع مع المعاناة الإنسانية في القطاع، وهو ما أدى إلى تشدد الخطاب السعودي، الذي أكد أكثر من مرة أن أي تطبيع لن يتم إلا في حال قيام الدولة الفلسطينية.
كيف تعاملت دول الخليج مع فصائل المقاومة
شاركت السعودية والإمارات في نظرة موحدة تجاه التنظيمات المسلحة التابعة لمحور المقاومة، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي، واعتبرت الدولتان حماس تنظيمًا إرهابيًا بسبب ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين، رغم محاولات الحركة فصل نفسها عن هذا الانتماء، عبر وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي أصدرتها عام 2017. كما عارضت الدولتان انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية في 2006، معتبرتين أنه عزّز الانقسام داخل الساحة الفلسطينية.
علاقة حماس بمحور المقاومة المدعوم من إيران، دفعت الرياض وأبوظبي إلى اتخاذ موقف متحفظ من أعمالها العسكرية، خاصة في ظل التحولات التي شهدتها المنطقة بعد الربيع العربي، وصعود الحوثيين في اليمن، وشنهم هجمات مباشرة على منشآت أرامكو في السعودية، وأهداف حيوية في أبوظبي ودبي.
ورغم مشاركة الدولتين في جهود الإغاثة، ودعم غزة إنسانيًا، وإدانتهما لاستهداف المدنيين وجرائم الإبادة، إلا أن موقفيهما السياسيين لا يعارضان تقليص نفوذ حماس في القطاع، خصوصًا إذا كان ذلك جزءًا من تسوية تضمن وقف العنف.
وفي نوفمبر 2023، عقدت السعودية القمة العربية الإسلامية المشتركة، والتي خرجت بتشكيل لجنة مصغرة من وزراء الخارجية، برئاسة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، للضغط على المجتمع الدولي من أجل وقف الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن حتى اللحظة، لم تحقق هذه الجهود نتائج ملموسة.
المواجهة الإقليمية وحسابات الخليج
منذ اندلاع الحرب على غزة، وتصاعد المواجهة مع فصائل المقاومة المدعومة من إيران، واستخدام طهران لأذرعها الإقليمية كورقة ضغط على إسرائيل، اختارت دول الخليج التمسك بالحياد، من خلال تأمين أراضيها، والاعتماد على العمل الدبلوماسي لاحتواء التصعيد، ومنع امتداد المعركة إلى داخل حدودها.
واصلت السعودية التزاماتها مع إيران ضمن اتفاق بكين، واستقبلت مسؤولين إيرانيين للتباحث في سبل التهدئة في المنطقة، بينما وجدت طهران نفسها ملزمة بالتهدئة، لتفادي أي تصعيد شامل قد يهدد استقرارها الداخلي، أو يؤثر على صادراتها النفطية، وهو ما جعل الرد الإيراني محدودًا نسبيًا، مقابل الضربات الإسرائيلية.
رفضت دول الخليج، بشكل جماعي، الواقع الإنساني المأساوي في غزة، ورفضت الرؤية الإسرائيلية التي تهدف إلى فرض وجود عسكري دائم داخل القطاع، لمنع تكرار عملية مثل السابع من أكتوبر، كما أن هذا الرفض لا يعني إلغاء خيار التطبيع، بل يعني تأجيله حتى تتوفر شروط إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.
وفي ظل إدراك الخليج لعدم وجود مصلحة حقيقية في انتصار محور المقاومة، الذي يمثل تهديدًا استراتيجيًا مستقرًا ومتجددًا، فضلت هذه الدول النأي بنفسها عن مآلات الحرب، دون تبني مواقف مباشرة من فصائلها، حتى تتهيأ الظروف لإعادة ترتيب أوراق الإقليم من جديد.