مهنة «المسحراتي» عبر التاريخ.. أولهم بلال بن رباح والحداثة وراء اندثارها
أميرة جادو
تعتبر مهنة “المسحراتي” من المظاهر الخالدة للاحتفال بشهر رمضان؛ ويميل البعض منا خصوصًا الكبار الذي عايشوا مظاهر الماضي التراثية الجميلة التي لا يمكن أن تنسى، وتدوم وظيفة «المسحراتي» لمدة 30 يوما؛ وهو لقب يطلق على الشخص الذي يتولى مهمة إيقاظ المسلمين في ليالي شهر رمضان لتناول السحور؛ والمشهور عنه أنه يحمل طبلة أو مزمارا ويقوم بالعزف عليها لإيقاظ الناس لتناول السحور قبل أذان الفجر؛ ولان مهنة المسحراتي تقتصر على شهر رمضان فقط اختفت هذه المهنة واختفى الشخص الذي يحبه الأطفال.
بدأت مهنة “المسحراتي” مع جيل العظماء، إلا أن تغير حالها مع مرور العصور؛ وأصبحت مجرد ذكريات، والبعض الآخر تعرف على “المسحراتي” عبر الأغاني التي تعلن قدوم “شهر رمضان””.
الأئمة توقظ الصائمين
وكان أول من أعاد مهنة المسحراتي وأسندها للشباب الدارسين للعلم الشرعي؛ لإيقاظ الناس للسحور؛ هو الظاهر بيبرس، وكان إمام المسجد يقوم بدور المسحراتي خلال تلك الفترة؛ وكان ينادي على الناس قارئا للآية الكريمة “يا أيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، أما المسحراتي في الكويت كان يطلق عليه “بطبيلة” لأنه كان يحمل الطبلة؛ وفي السودان كان يحمل دفترا به كل أسماء أهل الحارة؛ وكان يناديهم بالاسم يا فلان وحد الدايم رمضان كريم، وكان يرافقه طفل صغير يحمل فانوسا لكي ينير له الطريق.
اختلفت الكلمات والجمل التي كانوا ينادون بها المسحراتية وأشهرها “يا نايم وحد الله يا نايم اذكر الله السحور يا عباد الله اصحى يا نايم وحد الدايم، قول نويت بكره إن حييت الشهر صايم، وفي الفجر قايم رمضان كريم”.
وبمرور السنوات، اختفت مهنه المسحراتي وأصبحت ضمن شريط الذكريات؛ حتى في أشهر أغاني رمضان للفنان محمد عبد المطلب أغنيه “رمضان جانا” وفي واحدة من الكوبليهات يقول للمسحراتي “واجعل ليلاتي هليله ٣٠ ليلة حلوة جميله”؛ “اصحى يانايم صحي النوم إحنا بقينا في شهر الصوم”.
أبو طبيلة
ووفقًا لما ذكره المؤرخ خالد الحناوي، إطلق على المسحراتي (أبو طبيلة) المعروف في شرق المملكة والخليج أو المسحراتي؛ كما هو معروف في العديد من الدول العربية؛ وهي مهنة سنوية يمارسها أشخاص بعضهم توارثها أبا عن جد.
تاريخ المسحراتي
يعود تاريخ تلك المهنة إلى بداية الإسلام وصوم شهر رمضان، فتشير كتب التاريخ إلى أن مؤذن الرسول «بلال بن رباح» كان من أوائل الذين قاموا بممارسة عمل «المسحراتي» حيث كان يقوم بإيقاظ النائمين لموعد تناول طعام السحور ومن ثم صلاة الفجر؛ وحسب معايشة كاتب هذه «الإطلالة» ومشاهدته لأبو طبيلة؛ وهو يدور في أزقة وطرق وحواري مدينته وهو ينادي على كل صاحب بيت باسمه مرددا “اصحى يا نايم وحد الدائم”. وباتت شخصية أبوطبيلة شخصية معروفة في المدينة، أو البلدة وحتى القرية.
وأضاف المؤرخ، كان المسحراتي يجمع آخر رمضان العديد من الهدايا والإكراميات وحتى الكسوة له ولأفراد أسرته؛ والجميل أن هذه الشخصية الرمضانية المحبوبة التي يتراكض خلفها الأطفال بل بعضهم يردد معه ما يقوله وهم يعيشون مشاعر الفرح والبهجة والسعادة.
وبمرو الزمن اختلف الوضع، حيث شهد العالم حالة من التطور، فبمواصلة الناس للسهر باتوا يواصلون يقظتهم حتى أذان الفجر وبالتالي ليسوا بحاجة لأبوطبيلة أو مدفع الإمساك كما كان في الماضي، إلا أن أبوطبيلة المسحراتي يعود لنا في مشاهد الأفلام أو بعض المسلسلات الدرامية أو الأفلام الوثائقية أو من خلال المهرجانات والفعاليات التي تقام في بعض ليالي رمضان.
وفي السياق ذاته، أشار الحناوي، إلى تاريخ المهنة القديم في دول الخلافة الإسلامية كان يوجد المسحراتي؛ الذي يقوم بإيقاظ الخلفاء والحكام ويردد بعض الأهازيج؛ بل ويصحب معه أفراد كفريق؛ وكان عتبة بن إسحق والي مصر أيام الفتح الإسلامي، كان يخرج بنفسه في مدينة «الفسطاط» لتسحير الناس.
وفي عهد الملك الناصر قال الحناوي ، أنه ظهر في مصر أول «سحار» محترف يدعى «أبو نقظة»، الذي اختص بتسحير الملك الناصر؛ لكن مع انتشار التلفزيون كانت بعض التلفزيونات العربية تقوم بإعادة مشاهد للمسحراتي وهو يردد كلماته وعباراته المحببة.
وفي هذا الصدد قال الدكتور عبدالله أبو علم في كتابه “رياض المعرفة” عن مهنة المسحراتى، أنها ظهرت بشكل رسمي في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، حيث كان قد أصدر أمرا بأن ينام الناس مبكرا بعد صلاة التراويح، وكان جنوده يمرون على البيوت ويوقظون الناس لتناول السحور، أما عصر الدولة العباسية يعتبر عتبة بن إسحاق أول الولاة وكان واليا على مصر، أول من كانوا يسحرون الناس، فكان يخرج بنفسه سيرا على قدميه لإيقاظ الناس مرددا “يا عباد الله تسحروا، فإن في السحور بركة”.
تطورت المهنة وازدهرت على أيدي المصريين، الذين ابتكروا الطبلة التي يحملها المسحراتي ويدق عليها دقات منتظمة؛ وكانت تسمى “بازة” ثم تطورت إلى طبلة كبيرة، أثناء تجوله في الأحياء وهو يقول أشعارا شعبية وزجلا خاصا؛ ثم تطورت المهنة لتضم فريقا معهم طبلة وصاجات برئاسة المسحراتى، يؤدون أهازيج خفيفة؛ يؤلفها الشعراء الشعبيون.
والجدير بالإشارة، كان المسحراتى قديما يرافقه رجل آخر يحمل فانوسا؛ حتى يشاهد المسحراتى الطريق في ليالي رمضان حالكة السواد؛ حيث لم تكن توجد إنارة في الشوارع والطرق الوعرة الضيقة قديما، ويمتاز المسحراتي بذاكرة حادة تستطيع أن تحفظ أسماء رجال الحي وسيداته كلها؛ ويمتاز أيضًا، بقدرته على التغيير والتبديل في المدائح التي يحفظها، بحيث يدخل فيها الأسماء المختلفة التي يريد أن يوقظ أصحابها، أو يطالبهم بنصيبه من لذائذ رمضان والعيد؛ على سبيل المثال ” شعبان أفندي شمس بالمندرة، الحتة منه كلها منورة، والست حسنة شرفت حيها، حلفت في الجّود مَاتلقيش زيها” وكان يطيل الوقوف أمام أبواب وجهاء الحي، ويسترسل فى مدحهم أملًا في صداقتهم لنيل الكثير من العطايا.
مهنه فقدت قيمتها
ومن جهته، أكد الدكتور وليد هندي استشاري الصحة النفسية، إن مهنه المسحراتي كانت مهنة محترمة، ولها من التبجيل والأثر الطيب في نفوس الناس، لأنه كان يتم اختياره وفقا لشروط ومقومات، أولها أن يكون ذائع الصيت لدى الناس في الحي أو القرية، وحسن السمعة ويتمتع بصوت جميل، ويجيد الإنشاد وشعر التسحير وهو شعر خاص وهو أحد أنماط الشعر وله وضع وكلمات متداولة وقافيه خاصة؛ وأن يكون معروف عنه الانضباط في المواعيد لضمان إيقاظ الناس وهي مواصفات موضوعية ومراعاة المواصفات الشكلية أيضا لأنه يجب أن يكون حسن المظهر وذا بشاشه في الوجه.
وتابع خبير الصحة النفسية، أن المسحراتي يجب أن تتوافر معه أدوات ويوجد معه طفل يرافقه ليتدرب على يده ليصبح فيما بعد معروف لأهل القرية، وأن يكون المسحراتي صاحب صوت قوي وله طبقات صوتيه معينه، وهي جميعها مواصفات كان يجب توافرها لكن للأسف اختفت مهنه المسحراتي، وانحسرت في بعض الأماكن مثل دبي ويستغلون ظهور المسحراتي في تنشيط السياحة.
ويرجع سبب اختفاء مهنة المسحراتي من مصر إلا فيما ندر؛ لأسباب كثيرة؛ أهمها تغيير نمط الحياة لأن الناس تسهر الآن ولاتحتاج لمن يوقظها، والباقي منهم يسهر في الكافيهات، بالتالي لن يحتاجوا للمسحراتي أن يذهب لهم لإيقاظهم بعبارة اصحي يا نايم، لأن التكنولوجيا المستحدثة والمنبهات والموبايلات أصبحت بديلة للإيقاظ على وقت السحور؛ بالإضافة إلى أنه ظهرت أجيال جديدة من الشباب والأطفال لديهم اهتمامات مغايرة؛ كالجلوس على السوشيال ميديا، ولم يعد من أولوياتهم أن يهتموا بالمسحراتي.
تدهور المهنة
وأشار خبير الصحة النفسية، إلى أن الآن يوجد ازدراء لمهنة المسحراتي، لأن من يعمل بها يأخذها شكل من أشكال التسول، ومظهره غير جيد وغير مستحب وعديم النظافة وملابسه رثه وغير مرغوب، وشكله منفر للناس وتخاف منه الناس، هذا بخلاف صعوبة المهنة لمشاق الترحال فيها والوقوف على الرجلين، وأنها مهنة تحتاج تدريبات الصوت والحفاظ عليه، خاصة مع ارتفاع العمارات لن يتمكن المسحراتي من النداء على عمارة مكونة من ١٥ دور أو أكثر، ومن الصعب أن يعرف الناس بالاسم وأن يجود ويركب على أسمائهم الألحان والكلمات، وهذا يحتاج لمجهود ورعاية صحية وقوة بدنية، لا يقابلها المكافأة المادية والأجر المطلوب؛ لأن المسحراتي لا يحصل على أجر من الناس إلا في العيد، والآن لا يوجد مقابل فتركوا مهنة المسحراتي وعملوا سائقين تكاتك لحصولهم على مكاسب أكثر من المسحراتي فبالتالي انحسر جيل من عظماء المسحراتية وانقرضت المهنة.