كتابنا

فكسبت الصين

عبد الحليم قنديل

اختلفت روسيا مع أمريكا فكسبت الصين ، فقد حاولت واشنطن كسب تفهم صينى لموقفها وحلفها الأطلنطى فى أزمة أوكرانيا ، بينما سبق الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” إلى بكين ، وتحت غطاء حضور افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فائقة الإبهار التكنولوجى ، وكان الرئيس الصينى “شى جين بينج” فى انتظارصديقه ، وقد التقاه لسبع وثلاثين مرة من قبل ، وفى هذه المرة المضافة ، وقع “شى” مع “بوتين” على إعلان تاريخى ، عكس الرؤية الصينية لبناء النظام العالمى الجديد متعدد الأقطاب ، وحمل عنوان “الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهدا جديدا والتنمية المستدامة” ، ولفت إلى تبلور “نزعة جديدة تقضى بإعادة توزيع توازن القوى فى العالم” ، وإلى دخول البشرية “عهدا جديدا للتنمية السريعة والتغيرات واسعة النطاق” ، وتبلور ظواهر “مثل تعددية الأقطاب والعولمة الاقتصادية وبناء المجتمع المعلوماتى والتنوع الثقافى وتغير منظومة الحوكمة العالمية والنظام العالمى” ، ولم ينس الإعلان الصينى ـ الروسى توجيه نيرانه إلى ما أسماه “بعض القوى التى تشكل أقلية على الصعيد الدولى ، وتواصل الدفاع عن مناهج أحادية الجانب ، وتلجأ إلى سياسة القوة ، وتتدخل فى شئون دول أخرى” ، والإشارة ظاهرة طبعا إلى أمريكا التى ذكرت باسمها ست مرات ، واتهمها الإعلان مع حلفائها بأنهم يؤججون “خلافات ومواجهات تحول دون تطور وتنمية البشرية ، ما يستدعى رفض المجتمع الدولى” .

وفى ترجمة مباشرة لإعلان “شى ـ بوتين” ، أبلغت الصين الاتحاد الأوروبى معارضتها لتوسع حلف شمال الأطلنطى “الناتو” على حدود روسيا ، وقال البيان الصينى أن “توسع الناتو لن يساعد فى ضمان الأمن والاستقرار فى العالم” ، وبرغم إعلان “ينس ستولتنبرج” الأمين العام لحلف “الناتو” اعتراضه على موقف بكين ، وإعادة التشديد اللفظى على أن “أبواب حلف الناتو تبقى مفتوحة” ، فى تلميح إلى حق “أوكرانيا” فى السعى للانضمام إلى الحلف ، إلا أن التحركات الأمريكية والغربية عموما ، صارت تميل لإغلاق ملف انضمام أوكرانيا ، مع استمرارتحريك القوات الأمريكية إلى دول وسط وشرق أوروبا ، لكن مع تخفيض التوقعات المفتعلة بقرب الغزو الروسى عقب دورة الألعاب الأوليمبية ، وما يشبه الانسحاب التدريجى المنتظم من المواجهة مع موسكو ، وتواتر زيارات الزعماء الغربيين للقاء بوتين فى موسكو ، وإعلان الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” رغبته فى التوصل لتفاهم مع بوتين ، واندفاع ألمانيا فى الطريق ذاته ، بعد رفضها إرسال أسلحة إلى الرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” ، والاكتفاء بإرسال خوذات رأس ، واعتراضها الظاهر على فكرة ضم “أوكرانيا” لحلف الناتو ، وهو ما بدا الرئيس الأمريكى “جوبايدن” نفسه أقرب إليه أخيرا ، بحديثه عن عدم توافر شروط ضم أوكرانيا للحلف ، وكأنه يغطى انسحابه من مواجهة مع روسيا ، خسرها قبل أن تطلق موسكو رصاصة واحدة ، وبالذات بعد إعلان الصين عن علاقة شراكة شاملة “بلا حدود” مع روسيا .

وفى تفاصيل لعبة الشطرنج العالمية الجديدة ، لعب بوتين على مسرح “أوكرانيا” بالورقة الصينية الحاسمة ، واستطاع ببركة تحالفه الموثق مع بكين ، كسب أولى معارك الحرب الباردة الجديدة ، فواشنطن لا ترغب ولا تستطيع الدفع بقوات إلى أوكرانيا ، بدعوى حمايتها ، تماما كما لم تستطع عمل شئ مؤثر ، حين قرر بوتين عام 2008 غزو “جورجيا” ، واقتطاع أقاليم منها بهدف منعها من الانضمام لحلف الأطلنطى ، وكذا حين قرر بوتين غزو أوكرانيا نفسها عام 2014 ، واقتطع ميناء “سيفاستوبول” وشبه جزيرة “القرم” ، وضمهما نهائيا إلى أراضى روسيا ، ولم يكن بوسع واشنطن وقتها كما اليوم ، سوى أن تلجأ إلى سلاح العقوبات الاقتصادية الصارمة ضد موسكو ، التى يعانى اقتصادها من هشاشة ظاهرة ، ويضعفه فرط اعتماده “الريعى” على تصدير البترول والغاز الطبيعى ، إضافة لتواضع حجم الناتج الإجمالى الروسى نسبيا ( 1.7تريليون دولار) ، وهو ما يشجع واشنطن على التهديد بخنق الاقتصاد الروسى ، وعلى نحو ما أعلن بايدن مرارا من خطط عقوبات فى حال تكرار الغزو الروسى لأوكرانيا ، من نوع وقف استيراد أوروبا للبترول والغاز الروسى ، ووقف تشغيل خط الغاز الروسى الألمانى الجديد “نورد ستريم ـ 2” ، والبحث لأوروبا عن بدائل للغاز الروسى ، الذى تعتمد عليه أوروبا عموما بنسبة 40% من احتياجاتها ، ويعول عليه الاقتصاد الألمانى بنسبة 55% ، وبرغم تذمر ألمانى لا يخفى من مطلب واشنطن إغلاق خط الغاز العملاق ، وتردد المستشار الألمانى الجديد “أولاف شولتز” فى الاستجابة الكاملة لخطط العقوبات الأمريكية الأخرى ، من نوع حرمان البنوك الروسية من مزايا نظام “سويفت” البنكى العالمى ، وهو ما قد يؤدى لشل حركة التبادل التجارى مع روسيا ، لكن التحول الجوهرى فى المواقف حدث مع زيارة بوتين الأخيرة إلى بكين ، فالصين هى أكبر مصدر فى العالم ، وثانى أكبر مستورد عالميا ، وفى قمة مستهلكى الطاقة فى الدنيا كلها ، وبوسعها تعويض روسيا عن التداعيات السلبية للعقوبات الأمريكية والغربية ، وهى أكبر شريك تجارى لموسكو ، وحجم التجارة السنوى بينهما وصل إلى 146 مليار دولار ، فيما يصل التبادل التجارى الصينى مع أوروبا إلى 709 مليار دولار سنويا ، ومع أمريكا ذاتها إلى 755 مليار دولار ، ونصيب الصين من التجارة العالمية يزيد اليوم على 35% ، وفوائضها من الاحتياطى النقدى الأجنبى تقارب الثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار ، وبغير ديون كتلك التى تعانيها أمريكا العليلة ، وتناهز اليوم نحو الثلاثين تريليون دولار ، فالصين هى القوة كاملة الأوصاف فى عالمنا ، وتندفع بسرعة إلى القمة الدولية ، وإعلانها لموقف فى أزمة أوكرانيا ، حول اتجاه الريح تماما ، ودفع فرنسا مع ألمانيا إلى ما يشبه الانشقاق عن الموقف الأمريكى ، ورفض سلوك بريطانيا “الأنجلوساكسونى” الذيلى لوشنطن ، ومسارعة لندن إلى مشاركة أمريكا فى إرسال أسلحة متطورة إلى “كييف” ، مع إدراك مسبق لعجز “أوكرانيا” عن الصمود لبضع ساعات فى مواجهة الغزو الروسى إن جرى ، وهو ما دفع الرئيس الأوكرانى نفسه إلى طلب التهدئة مع موسكو ، ومد الصلات مع فرنسا وألمانيا مجددا ، وإعلان الرغبة فى إحياء “اتفاق مينسك” ، الذى وضعته روسيا مع فرنسا وألمانيا وأوكرانيا بعد ضم “القرم” ، وصاغ خطة وقف إطلاق النار بين “كييف” والانفصاليين الروس شرق أوكرانيا ، الذين أقاموا جمهوريتى “لوجانسك” و”دونيتسك” فى منطقة “دونباس” ، وهما “كعب أخيل” الروسى داخل أوكرانيا ، الذى لن يتخلى بوتين عن استثماره فى المدى القريب والمتوسط ، بعد أن بدا أنه اقترب من هدف أكبر ، هو تخفيف حجم ونوعية أسلحة حلف “الناتو” فى دول شرق أوروبا عموما ، وليس فقط غلق ملف انضمام “جورجيا” و”أوكرانيا” للناتو .

وفى مجرى الكسب الصينى من الدراما الأوكرانية ، بدت بكين كأنها الطرف الأقوى والأقدر والأعقل معا ، وسحبت من منافستها واشنطن دعوى قيادتها للعالم ، وحتى للغرب الأوروبى ، فالتأثير الصينى على دول الاتحاد الأوروبى زاد على التأثير الأمريكى نفسه ، والتجارة الصينية مع أوروبا زادت على نظيرتها الأمريكية ، وبفوائض لصالح بكين وعجز تجارى فى حالة واشنطن ، وهو ما يعود بنفع استراتيجى مباشر لصالح الأولويات الصينية ، خاصة القومية منها ، وبالذات فى قضية “تايوان” ، التى تسعى بكين لضمها نهائيا ، على طريقة ضمها “هونج كونج” و”ماكاو” من قبل ، وتكاد واشنطن تكون الطرف الوحيد الذى يعارض الحق الصينى ، برغم سابقة إقرار واشنطن لحق الصين فى تايوان ، وتسليمها بسياسة “صين واحدة” أوائل سبعينيات القرن العشرين ، وقد أعاد بوتين تأكيد تأييده للحق الصينى ، ومع إعلان علاقة “بلا حدود” بين بكين وموسكو ، بدا أن خطة ضرب الصين بروسيا أكملت سيرة فشلها ، وأن محاولات واشنطن استفزاز الصين بقضايا من نوع “الإيجور” و”التبت” و”هونج كونج” يضعف أثرها ، مع توثق عرى تحالف “أورواسى” هائل ، يملك القوة العسكرية والاقتصادية الأكثر حسما فى توازنات العالم الجديد ، ويحمى ظهر الصين المصممة على ضم “تايوان” فى موعد تحدده بغير تعجل ، وفى حرب قد لا تستغرق سوى بضع دقائق ، لا تكسب واشنطن فى الطريق إليها ، سوى إبرام صفقات سلاح مع حكومة “تايوان” ، كان أحدثها صفقة بمئة مليون دولار ، كان رد الصين عليها ، فرض سيادة جوية دائمة على أراضى تايوان ، وباستخدام أسراب من قاذفاتها النووية الاستراتيجية ، فى تحذير حربى متصاعد لواشنطن ، التى بدت محاولاتها للتحرش بالصين عظيمة الإخفاق ، ومثيرة لسخرية بكين ، التى فضلت عدم التعليق على اصطدام غواصة نووية أمريكية بعائق صلب فى بحر الصين الجنوبى ، ثم سقوط الطائرة “إف 35 ” فخر الصناعة الأمريكية أخيرا بالقرب من المكان نفسه ، وبتكنولوجيا مضادة غير مرئية ، كانت الرسالة “المشفرة” فيها ، أن اللعب مع الصين فات أوانه وضاق مكانه .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى