الطبيب الشاعر الذى غنت له مصر بأكملها بعد ١٢ سنة من وفاته بمرض السكر
كتب / حسين الهوارى
إبراهيم ناجي شاعر مصري ولد في 31 ديسمبر 1898م بالمنزل رقم 22 بشارع العطار بشبرا وكان ترتيبه الثاني بين سبعة أشقاء وكان والده متدينا ويمتلك مكتبة ضخمة تضم آلاف الكتب في شتى مجالات الثقافة وقد ورث عن والده حب العلم والقراءة والقدرة على استيعاب اللغات فأجاد الانجليزية والفرنسية والالمانية وورث عن والدته انسانيتها وخفة ظلها فقد كان من ظرفاء عصره.
حياته العلمية:
وقدبدأحياته التعليمية في مدرسة باب الشعرية الابتدائية عام 1907 والتوفيقية الثانوية عام 1911 ومدرسة الطب بقصر العيني عام 1922 وتم تعيينه طبيبا حكوميا في وزارة المواصلات في السكك الحديدية عام 1922 ثم في وزارة الصحة وبعدها في وزارة الاوقاف حتى شغل منصب مراقب عام القسم الطبي في الوزارة وخرج الى المعاش مبكرا لضعف صحته ثم تفرغ لعيادته الخاصة كما شغل منصب طبيب نقابة السينمائيين والممثلين وكان وكيلا لمدرسة «أبوللو» الشعرية عام 1932 ورئيسا لرابطة الادباء في مصر عام 1945 كما أصدر مجلة طبية باسم الحكومة كان يملؤها بالتوجيهات والارشادات الطبية الصحيحة ، وتوفي عام 1953م.
جلس في عيادته المتواضعة بحي شبرا وسحب دفتر روشتاته ليس ليكتب دواءاً لمريض بل ليكتب عليه كلمات رجت قلوب العالم العربي بأكمله وعصفت به. لقد عاد لتوه من زيارة مريضة فوق العادة إستنجده لها زوجها..وحين هرع إليها لينقذها لم يصدق نفسه حين إلتقت عيناه بعينيها فإذا بها نفس الفتاه التى أحبها بجنون في دفء شوارع المنصورة وفرقهما سفره لدراسة الطب بالقاهرة. نظر إليها وقد شُل عقله للحظات وتسارعت ضربات قلبه حتى كاد أن يتوقف! لقد نسى الطب بأكمله للحظات فلم يبقى منه وقتها إلا بقايا الشاعر الملهم الذي كان يتمنى أن يدرس الآداب ليستمر في شعره وقصصه فإذا به يدرس الطب ليقف ها هنا اليوم لينقذ محبوبته بالمشرط بدلًا من الكلمات ولكن روشتته ترفض كتابة أسماء الادوية على صفحتها وتذكره بأنه فقط شاعر مرهف قبل أن يكون طبيبًا. فكتب عليها أبياته ؛
لست أنساك وقد أغريتني بفم عذب المناداة رقيق.
ويد تمتد صوبي كَيَدٍ من خلال الموج مدت لغريق .
آه يا قبلة أقدامي إذا شكت الأقدام أشواك الطريق.
وبريقًا يظمأ الساري له أين من عينيكِ ذياك البريق.
لست أنساك وقد أغريتني بالذُرَى الشُمِّ فأدمنت الطموح.
أنت روحٌ في سمائي وأنا لك أعلو فكأنِي محضَ روح.
يا لها من قمم كنا بها نتلاقَى وبسرِّينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها ونرى الناس ظلالًا في السفوح.
لقد كتب إبراهيم ناجي “الأطلال” ليرثي فيها حبه الذي ضاع وحلمه الذي تبدد فقد إنهار صرحه الذي بناه في الخيال ليصبح ثرى يراه أطلالًا تُروى عليه قصته بدموع متحجرة في المآقي منذ يوم الفراق!!
يا فؤادي رحم الله الهوى..كان صرحًا من خيال فهوى.
إسقني وأشرب على أطلاله وأروي عني طالما الدمع روى.
كيف هذا الحب أمسى خبرًا وحديثًا من أحاديث الجوى .
فحياة إبن المنصورة العاشق مليئه بالأحزان فقد صدمته سيارة وهو في زيارة لباريس وأصيب بعدها بمرض السكر الذي أنهك قواه وظلمته ثورة يوليو حين أوردت إسمه خطأً أو عمدًا في قائمة التطهير ففقد وظيفته وإنفض من حوله الجميع وهو من قال في حب مصر وهو يُحمِّس شبابها ليعملوا:
أَجلْ إن ذا يوم لمن يفتدي مصرا فمصر هي المحرابُ والجنةُ الكبرى
سلاماً شباب النيل في كل موقفٍ على الدهر يجني المجدَ أو يجلبُ الفخرا
تعالوا فقد حانتْ أمورٌ عظيمةٌ فلا كان منا غافلٌ يصم العصرا
شبابٌ نزلنا حومةَ المجدِ كلناَ ومن يغتدي للنصر ينتزعُ النصرا
تعالوا نشيّدْ ملجأً، رب ملجأٍ يضم حطامَ البؤسِ والأوجهَ الصفرا .
تعالوا نقلْ للصعبِ أهلا فإننا شبابٌ ألفنا الصعبَ والمطلبَ الوعرا.
شبابٌ اذا نامت عيونٌ فإننا بكرنا بكورَ الطيرِ نستقبل الفجرا.
تعالوا نشيّدْ مصنعاً رب مصنعٍ يدر على صُناعنا المغنمَ الوفرا.
تعالوا لنمحو الجهلَ والعللَ التي أحاطتْ بنا كالسيل تغمرُنا غمرا.
وحين عاد للمنصورة منهك القوى..عليل الجسد..مكلوم النفس والروح أحس في حضنها أنه عاد لمعشوقته جنة الله على الأرض ليتنفس فيها روحه وهو يقول:
وافيتُها وفلول النور دامية….تطفو وترسب أو تعلو فتعتلقُ
لم أدرِ حين تبدَّتْ لي إذا شفقي..أبصرته أو على المنصورة الشُفُقُ؟؟
هل يسمعُ النيل إذا سرنا بجانِبهِ…والموج مجتمعٌ فيه ومفترقُ؟
يا جنةً من جنان الله أعبدها..لن تبعدي ولدى السحر والعبقُ
مات طبيب المنصورة الرومانسي الحالم حزينًا وهو لم يتجاوز الخامسة والخمسين من العمر في مارس ١٩٥٣ بسبب السكر. وبعد ١٢ عامًا من وفاته جمعت بنت الدقهلية الشجية أم كلثوم شتاتًا من قصيدته الخالدة “الاطلال” لتشدو بها بصوت ملائكي مع لحن مرعب لإبن المنصورة العبقري رياض السنباطي!!! ما هذا الجمال والإبداع يا أبناء المنصورة وأنتم تصفون المحبوب كما لم يوصف من قبل؛
أين من عيني حبيبُ ساحرٌ .. فيه عز وجلال وحياء .
واثق الخطوة يمشي ملكاً .. ظالم الحسن شهي الكبرياء .
عبق السحر كأنفاس الربى .. ساهم الطرف كأحلام المساء.
ولم تكتفي أم كلثوم ببعثرة قصائد الطبيب العاشق بحثًا عن اللؤلؤ الغائص في أعماق البحار بل قرأت كل ما كتب لتقع عينيها على منجم من ذهب في قصيدته “الوداع” لتختار سبعة أبيات منا لتضمهم الى ملحمة الأطلال ليكتمل العقد النادر. وكلما سمعت هذه الأبيات تسري قشعريرة النشوى في كل جوانحي والبهجة في نفسي وروحي. فالفرحة تثب والضحك من القلب ببراءة الاطفال وأحاسيسنا تعدوا بنا فنسبق ظلنا!!!
هل رأى الحب سكارى مثلنا .. كم بنينا من خيالٍ حولنا.
ومشينا فى طريق مقمرٍ .. تثب الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضحك طفلين معاً .. وعدوّنا فسبقنا ظلنا.
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق .. وأفقنا ليت أنّا لا نفيق .
يقظة طاحت بأحلام الكرى .. وتولى الليل والليل صديق .
وإذا النور نذيرٌ طالعٌ .. وإذا الفجر مطلٌ كالحريق.
وإذا الدنيا كما نعرفها .. وإذا الأحباب كلٌّ في طريق!!
ما هذه الروعة في التعبير!! وما هذا الجبروت في اللحن والالقاء وقيثارة السماء تختتم ملحمة ناجي وكأنها تؤكد بها قوله بأن كل الناس تموت إلا الشعراء فهم خالدون
يا حبيبي كل شيئٍ بقضاء .. ما بأيدينا خلقنا تعساء .
ربما تجمعنا أقدارنا .. ذات يوم بعد ما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله .. وتلاقينا لقاء الغرباء.
ومضى كل إلى غايته .. لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء .