المزيد

الحداثي العربي الجديد: علم النقد الأدبي

الشعر العمودي المعاصر مدخلاً للحداثة ( قراءة تطبيقية في شعر / محمود حسن)

 

علم النقد الأدبي

الشعر العمودي المعاصر مدخلاً للحداثة

( قراءة تطبيقية في شعر / محمود حسن)

حاتم عبدالهادي السيد

يبدو أن نقاد اليوم في حيرة عند تناول القصيدة ومقارباتها، فهل ينحو الناقد ليعمل مشرط النقد بمبضع القديم على القصائد الحداثية، وهل يتغيا الحداثة لتطبيق نظرياتها على القصائد الكلاسيكية، العمودية؟!. إشكالية يتورط فيها النقاد، ومزالق يقع فيها كثير من الأكاديميين الذين انحازوا الى المنهاجية والنظرية، كل بمفهومه، وقناعاته، فتخاتلت الذائقة، وأصبح النقد على المحك ليتصارع النقاد ما بين مؤيد ومطبق للقديم، وما بين حداثي يحاول أن يُطَوّع القديم لمنهاجية الحداثي ، وأقول: على النقاد ألا ينحازوا لآرائهم التي قد تفقد الدرس النقدي جمالياته وتشوهه، فالقديم يصلح معه الدرس النقدي الحداثي، لأنه لم يعد قديمًا، كما أن شكل القصيدة– في الأساس- قد تغير، حتى القصيدة العربية العمودية، التي تكتب الآن، لا يجب أن نطبق عليها عيار الشعر القديم، لأن سياقات العصر، ونمط، وروح القصيدة، بل ونظمها قد اختلف تماماً، فالشاعر المعاصر – الآن – الذى يكتب الشعر العمودي لم يعد يقف على الأطلال، أو يبكى الديار، أو يتغزل في وصف الناقة، والتي قد لا يكون – كمديني يسكن المدن– قد رآها على الطبيعة، أو عايش سُكنى الصحراء، ومن هنا فان الإبداع ابن بيئته وعصره، ولا يجب أن نلتفت الى الخلف، ولدينا علوم اللسانيات الجديدة، وعلوم اللغة، والبلاغة الجديدة التي جاوزت اللفظ والشكل والمضمون، الى آفاق أكثر كونية، فغدت القصيدة براحاً يتسق مع تلاحقات العصر وتكنولوجياته وحداثته، بل ما بعديات الحداثة كذلك .

وعن هذه الإشكالية أيضاً يقول الناقد والشاعر/منصف الوهايبي:”بدايةً نحن نعرف الإشكالية الكبرى التي يثيرها الشعر القديم اليوم عندما يحاول البعض أن يقاربه في ضوء المناهج الحديثة، وكذلك ما يثيره الشعر الحديث عندما يحاول البعض أن يقاربه بأدوات البلاغة القديمة. هذه القضايا يمكن أن تُطرح كذلك من خلال الأعمال الشعريّة وليس الأعمال النقدية، سواء عند النقاد أو البحوث الجامعيّة فحسب». ولعل الوهايبي يلمح الى التطبيق على المنهجية ، ولى أن أؤيده تماماً ؛ فلا يمكن أن نطرح النقد بشكله النظري، دون أن نحيله الى جانبه التطبيقي، وإلا – كما أصف- فإننا نستعرض نقداً من أجل النقد، وإلا فما جدوى التنظير دون التطبيق، وما جدوى النظرية دون أن تجد لها مناخاً تطبيقياً كذلك .

ويؤيد ذلك الأكاديمي والناقد التونسي أ.د/سالم بو خدّاجة، يقول: “اليوم نحن أمام تجارب حديثة مختلفة اختلافاً كبيراً عن التجارب الشعرية القديمة، فالشعر العربيّ اليوم لم يعد كما كان الشعر القديم، ولذلك ارتأى الكثيرون أن هذا الشعر يحتاج إلى آلية جديدة ليُقارب بها، هي المناهج الحديثة التي نشأت وتطورت في فضاء ثقافي فكريّ غربي حديث، وهي مناهج تسعى إلى تأسيس ما يُعرف بعلم الأدب، في محاولة لتجاوز البلاغة القديمة ذات الصبغة المعيارية بصورة عامّة”. ويضيف:الإشكالية الكبرى التي يثيرها الشعر القديم اليوم عندما يحاول البعض أن يقاربه في ضوء المناهج الحديثة، وكذلك ما يثيره الشعر الحديث عندما يحاول البعض أن يقاربه بأدوات البلاغة القديمة.

ولنا أن نحل لغز تلك الاشكالية ، كي لا نظلم القصيدة العمودية المعاصرة، وكي لا نظلم النقاد كذلك عند مقاربتها، لذا فقد طرحت سؤالاً مفاده : هل يصلح الشعر العمودي ليكون مدخلاً للحداثة العربية ؟. ولم أقل بديلاً للحداثة، بل مدخلاً يمكن التعويل عليه لتحديث القصيدة العربية لنخرجها من جمود الشعر – لتكتسب صفة الحداثة الشعرية ؟ .

أقول : بداية بأن الشاعر الذي يكتب القصيدة العربية في العصر الحالي لا يكتبها بشكلها القديم، ولا بنظام طلليتها، في الوقوف علي الأطلال ووصف الديار، والناقة، ثم التشبيب أو وصف المحبوبة، ثم الدخول إلي الغرض الشعري، أو الأغراض المختلفة من مدح وفخر وهجاء ورثاء وغير ذلك، بل تخطت القصيدة العربية الآن كل ذلك،لتشتبك مع الكوني والمعاصر، والذاتي والموضوعي، عبر ترميزات ولغة جديدة، وتراكيب أكثر معاصرة علي مستوي الأسلوب والتراكيب، وعلي مستوى الشكل والمضمون، وغدت القصيدة متماسة مع الواقع الذي ينشد المعاصرة، وإن تشابه مع الشاعر القديم في شكل القصيدة بمصراعيها، وعبر الوزن والقافية، إلا أن علوم اللغة الحداثية، وعلم الاشتقاق قد استحدث لغة عصرية أكثر سموقاً، وجمالية، وأعمق دلالة، كما استخدم الشاعر المعاصر علوم البلاغة الحديثة ليعيد تثوير المعني عبر الأيديولوجيات والرؤي المعاصرة، فتغير شكل القصيدة ومضمونها، بل ولغتها وتراكيبها، وصورها كذلك، وغدت نسخة حداثية تتواشج مع العصر ومدلولاته ودواله السيموطيقة الأكثر إدهاشاً واعجازا ومرونة،ً عن اللغة الواصفة القديمة والتي تخاطب الأذن فحسب، والروح فحسب، بل تواشجت الأغراض، واندغمت المعاني، وتأنقت اللغة وتمكيجت وتزينت لمطلع العروس الجديدة: القصيدة العربية المعاصرة، وحري بنا كنقاد أن ندلل إلي معيارية اللغة هنا،وفلسفتها، ونخرج من عباءة اللفظ والمعني إلي الكوني والجمالي، والذاتي ومابعد الحداثي، لنتغياً أفقاً وحداثوية معاصرة للشعر العربي المعاصر، ولنا أن نطبق ذلك بشكل عملي لنقرأ قصائد الشاعر الجميل / محمود حسن عبدالتواب، ولنري ما ارتأينا تطبيقه كذلك .

وعبر قصيدته الرائعة:(ثمرٌ على شجرِ اليتامى) فإننا نلمح منذ العنوان الفارق الثمر علي الشجر عند الشعراء القدامي، ولكنه أضاف -عبر المضاف اليه- لفظة ” اليتامي”،وما كان الشاعر القديم يصف الأشياء إلا بأسمائها وصفاتها، فليس هناك شجر لليتامي، ولنتذكر ” شجرة الزقزم، وطلعها الذي يشبه رءؤس الشياطين”، فقد قامت الدنيا وقتها : كيف يشبه الشاعر المحسوس بغير المحسوس والمجهول، وما شجر الزَّقُوُم، وشكله؟ وما ماهية رءوس الشياطين؟ وهل رأي أحد الشياطين كي يشبه طلع وثمار الشجرة المحسوسة برءوس الشياطين التي لم يرها أحد؟ وبالتالي خرجت القصيدة من عباءة الحسي – في العصر الحديث – إلي الكوني عبر فضاء اللغة، والبلاغة الجديدة، التي فتقت الذهن وفتحته علي أفق الخيال، وأزاحت الصورة المباشرة واختزلتها، بل وغَيّبتها عبر الترميز وكونية التصوير، والصور المركبة، والتدوير، وازاحة المعنى للوصول إلي ما ورائيات المعني، دون أن تكون هناك تورية، أو يستخدم الشاعر المحسنات البديعية من جناس وطباق وتورية ومن علوم البيان والبديع والمعاني – غلا عرضاً – بل اجتاز الشاعر المعاصر ذلك، وتفرد بالصور التي ارتبطت بواقعه، وبما بعايشه، ولقد رأينا المعركة محتدمة في منتصف ونهاية القرن العشرين عندما أدخل الشاعر الطائرة والصاروخ والمدفع غي صُلب تكوينية القصيدة – بعد موافقة مجمع اللغة العربية علي اعتبار الألفاظ الجديدة ضمن قاموس الحداثة اللغوي- فاستبدل الشاعر السيف والفرس والجمل بالسيارة والقطار والمترو، كما تم استبدالهما كذلك بدلاً من البغال والحمير والجمال والأحصنة، وتوالت مسايرات العصر ومقتضياته، والسؤال هل وقف محمود حسن – شاعرنا المعاصر الآن – علي الأطلال وبكاها، وهل وصف الديار والناقة وتشبب في المحبوبة، ام انه ضرب بكل الشكل القديم صفحاً ، واجتازه ليقول في مطلع القصيدة :

أسافرُ حيثُ لا شاءَ المقامُ

وتحملني القصيدةُ و الزِّحامُ

على حرفِي أُعكِّزُ كلَّ فجرٍ

لأنَّ النطفةَ الأولى إمامُ .

فهو يسافر مع القصيدة هنا وهناك، عكازه حرفه، وسنده والده الإمام الذي علمه قول الشعر، وهو يعيش في المدينة بصخبها، فلا زراعة هنا في المدن، ولا ناقة ليركبها من ميدان رمسيس إلي الدقي، ولا أطلال لعبلة أو ليلي، أو رعي لناقة، بل رأيناه يزرع الشعر في دماغ محبوبته كما يزرع الفلاح البذور في التربة، وينطلق الشاعر ليقص عبر الحكاية، أو القصة الشعرية – الدراما – فمن طفل يجري إلي رجل يقتات بالحروف والكلمات ، ثم يبدأ في تعديد صفاته، ويتنقل بنا كفراشة من غصن إلي غصن، ومن موضوع إلي آخر في سهولة وسرعة وجمالية، ولعل السرعة في الوصف، والانتقالية من مكان إلي أزمنة وامكنة مغايرة، وبسرعة قد أكسبت القصيدة قوة، وتغايرية عن الوصف القديم، يقول:

وأزْرَعُ في دماغكِ ألفَ بيتٍ

ولا شجرٌ يُلقِّطُ أو حمامُ

أنا طفلٌ بظهرِ الغيبِ يجرى

أُشَخْبِطُ لا أُقَوْلبُ أو أُلامُ

أنا رجلٌ تُقَوِّتُني حروفي

وقافيتِي ومعْطفِىَ الكلامُ

وَلِى قلبٌ يَرَى من ثُقْبِ حرفٍ

ولو كانَ الوراءُ هو الأَمَام

ولى أملٌ وإن ظلمت وُلاةٌ

وَلِى وطنٌ كبيرٌ لا يُضامُ

وَلِى وجعي وأسئلَتي بُكائي

وَلِى سِجْنى ولى عرشٌ يُقام

أنا ثمرٌ على شجرِ اليتامى

ويأكلني الوصاةُ وهم صيامُ

أنا نَصلٌ على جُرْحى مقيمٌ

أعذِّبُني وتنْكَأُني العظامُ

أنا الرَّحالُ لم أسكنْ بوادٍ

برجلى قد ضربتُ وهم أقاموا.

ثم نراه ينتقل من الوصف لحاله إلي جوهر الذات، وكأنه صوفي في محراب اللغة، يغترف منها ما شاء له ان يغترف، ويطوعها لتصاويره كيفما شاء له الخيال. فالقصيدة لديه هي ديمومة كونية، لا تنام، وتسير عبر بندول ذاته القلقة المسافرة عبر الذات، لتحط علي شجر اليتامى العشاق، وهو الإمام يقبس من وهج الأبدية نور اليقين والبرهان والوضاءة، عبر لغة تطوع له، وتتهيأ فيقطف من عنبها ثمر الوجع والحب والراحة المشتهاة، يقول :

أنا المنْفىُّ من ذاتي لِذاتي

إمامُ لي فمأمومٌ إمامُ

وأبْياتي كما زَغَبُ البراري

خِماصِيُّونَ لا بُطْنٌ طِعامُ

وَلَمْ يخدعْ عيونى شِبهُ شَيْءٍ

كَأَنَّ النَّاسُ راكعةً قيامُ

بربِّكِ يا عروسَ الغيبِ هِيئِى

لِشِعًرِىَ فالقصيدةُ لا تَنامُ

ويا لغةً تراوِدُني غياباً

حلالكُ في الغيابِ هو الحرام.

ولنلحظ استخدامه لكل الصور الجمالية كما في الشعر القديم، إلا أنه يكسوها بمظهر حداثي يتماشي مع عصره وبيئته، فالشعر ابن بيئته وعصره، ولن يكون سواهما أبداً .

وفي قصيدته: ” عَطَشُ الظِّل ظِلُّ العطش” نلمح تبادلية المعنى وتغايريته رغم الحروف، فالمعني هو ليس المعنى، إلا انها المعاني الثواني، التي تحدث عنها شيخ البلاغيين/ عبدالقاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر، ومن تبعهما، او هي اللغة الثالثة التي تحدث عنها المجددون عبر تداخل الأجناس والنوعية، فنرى الشاعر يُمسرح القصيدة، عبر الصور البصرية التي تعكس مشهديات ومناطق تَقَصّدها الشاعر ليعيد مرتكزات قصيدته علي أسس أكثر انفتاحًا علي الذات والموضوع، والشكل والمضمون، وعبر معيارية اللغة واقتصادياتها المائزة، ودوالها السيمولوجية الكونية، وفيزيائية المعني، عبر تناص الاحالة الترميزي، يقول :

أشارتْ ولمْ تَلْبَثْ وكنتُ أُفَكِّرُ

أَتُوحِي إلى بدءِ العذابِ فيُؤْمَرُ ؟

هناكَ على التَّوبادِ ليلاكَ صَخْرَةٌ

ومَثَّالُها أعْمى وقيْسٌ وعنتَرُ

كأَنَّا على جُرْفِ الزَّمانِ دِيارُنا

وإِنَّا على خَرْقِ السفينةِ نَعْبُرُ

فالشاعر يتناص مع جبل التَّوباد ” أيا جبل التوباد حيّاك الحيا “، وعبر المثَّال الأعمى، وحكايات العشق لدي قيس وعنتر، كما يتناص مع الخضر وقصة خرق السفينة، وهذه تناصات احالية تحيلك إلي مضمونية أحداث واستتباعاتها، عبر سياقاتها الجديدة، ويصبح هو الفتي الضوئي الكاشف بمصباح “ديوجين”، كل العصور.فمن موسي والخضر،وعنتر وقيس،إلي فرعون، يقول :

يَمُرُّ الفتي الضوئِيُ منكَ فَيُكْسَرُ

ويمشي كظلٍّ يَحْتَويكَ فَيَكْبرُ

كأنَّ – الرُّؤى فرشاةُ فرعونَ هَيَّأتْ

له البحرَ أرضاً – والمَصَارِعَ معبرُ.

وكأن الشاعر ينتصر معنا فيما ارتأيناه من تجديدية الشعر فينشد “بيت القصيد”، الأسنى الصادق، فالشعر لا يحيا بأرض عقيمة متحجرة – كما يذكر- بل يتجدد بتجدد العصور، وهذا ما نشدناه، ووجدناه لديه متحققاً ، يقول:

هو الشِّعْرُ لا يحيا بأر ضٍ عقيمةٍ

ومِحْبَرَةٍ رِيشاتُها تَتَحَجَّرُ

فلا سترَ الجِنِيُّ عورةَ آدمٍ

ولا انتبهتْ حوَّاءُ أنَّكَ مُبْصِرُ

و يبْدو لَكَ التَّمثالُ صفحةَ شاعرٍ

تشكِّلُهُ أنثى وطِينُكَ مَرْمَرُ

وهالةُ عينيك اللتين إليهما

سَعَتْ لغةٌ عجماءُ – حينَ تُفَسَّرُ ..

ثم يعود ليتحدث عن اللغة العربية، فيتناص مع “حافظ ابراهيم” شاعر النيل، ثم ينتقل إلي مجمع البحرين، عبر مركبة فضاء القصيدة الجديدة، ثم يتناص مع القرآن الكريم في”لذة للشاربين”، ومع المتصوفة في كأس النشوي الكبري،والهيام الصوفي، واللذة المُسكرة، يقول :

هيَ البحرُ في أحشائهِ الدُّرُّ كامنٌ

وفِي مجمعِ البَحْرينِ رُوحُكُ تَسْهَرُ

فَكُنْكَ وقدْ خُلِّقْتَ من لغةٍ إذا

حناجِرُهم جَفَّتْ فصَوْتُكُ أخْضَرُ

لِيَهْمي كما يهمي السَّحابُ بَشَائرا

على عطشِ المعنى وفَيْئُكَ مُسْكِرُ

فَسُكْرٌ بلا حَدٍّ ولَذَّةُ شاربٍ

إذا شَطَّ سَاقِيهِ فقَدْ يَتَحَرَّرُ

يقومُ بلا وعيٍ ويَسْقُطُ صاحِياً

وتَنْكَسِرُ الدُّنْيا ولا يَتَكَسَّرُ

ترى بعدَها الدنيا تَشِفُّ ثيابُها

وَيَشْتَبِهُ المعنى عليك فتُزْهِرُ

غيابا شَهِيَّاً لا حُضُورَ يُعِيقُهُ

صَحَوْنا إلى أنْ مَلَّ سِرٌّ ومَخَبَرُ.

ثم نري الشاعر ينتقل بين المعقول واللامعقول، وبين الوعي واللاوعي، وقد أسكرته لذة ونشوى القصيدة فغدا في براري العالم يصيح وينشد الحرية للذات، عبر فضاء القصيدة الكونية التي تعبر العصور، وتجتاح الازمنة والحدود، لتشتبك مع الكوني والجميل والمقدس، والشعري والحكائي والصورة والظلال، وتداخلات المعاني، وتراكب الصور، وما خلف المعني من صور ورؤي وتناصَّاتٍ، كل ذلك يُحدثه الشاعر عبر اللغة المائزة اليقظة،التي يُمكيجها من روحه المنهمرة في هيولي النور والجمال، لدي بئر المحبة، بقول :

فهلْ عَالمٌ لا وَعْيَ فيهِ مُخَلِّصٌ

يُخدِّرُنا نحيا هناكَ ونُقْبَرُ

لماذا هنا ؟ .. لمْ نُسْتَخَرْ ونفوسُنا

إلى المُتَنَبِّي في المجاهلِ تُبْحِرُ

علي قلقٍ لا ريحَ تحملُ غُصَّتيِ

ولا هُدهدٌ يُنْبي بكَسري فَيُجْبرُ

أقومُ بِلَيْلي يَمضغُ الفجْرُ خَيْطَهُ

فهل تُجْزِىءُ الأشعارُ والحرفُ خِنْجَرُ

فلا كُتِبَ البيتُ المُرَصَّعُ تاجُهِ

ولا حزِنَ البيتُ الجريحُ فَيُؤْجَرُ

يَمُرُّ الفتي الضوئِيُ منكَ فَتُكْسَرُ

ويمشي كظلٍّ يَحْتَويكَ فَتَكْبرُ .

إنه فتي الضوء الذي تتكسر ظلاله، لكن أفعاله تكون علي الملأ، فقد ملا الدنيا ضجيجاً وثورة، وحباً وقربًا ووصالَا للقصيدة المُبتغاة، عبر يقينة المعني وما ورائياته التي تمنحها اقتصاديات الترميز، والصور والظلال، والألوان .

وفي قصيدته: ” حسبى وحسبُكِ آيةً عُلويَّةً” نري الشاعر يخاطب القصيدة، ذاته، ظل الحروف ومعاني دلالاتها الأشهى، عبر عريشة حروفه التي يَخُشُّ إليها كفاتح يفتح مغالقها، ويتبوأ اركان بؤبؤ جوهرها، ويتوكا علي صدرها الحنون، يهدهدها بالحرف الدافيء والمعني الجزل، والحرف الخارج من وهج القلب وحنانه بين الضلوع، فقد أصبح الذبيح المذبوح بسبب الشك، لمحب يصور حبيبته بالهذبان، وقصيدته هنا معجونة بماهيتهان وبهارها الكوني، فالبئر والشاربان هما الشعر والأحزان، والحبيبة هنا هي القصيدة، نقطة السر في الوجود، وكلمة الله في المعجم الأسني والأشهي، يقول :

انِّى المحبُّ وأنَّكِ الهَذَيانُ

انِّى على جبلِ الفداءِ ذبيحُهُ

والذَّابحانِ الشكُّ والغَليانُ

نفقٌ بطولِ العمرِ أتعبَ وجهتى

حتى كَبرْتُ وزُلْزِلتْ أركانُ

بئرٌ بعمقِ الجُرحِ غِيضَ سِقاؤُهُ

فالشَّاربانِ الشعرُ والأحزانُ

قَدْ كنتِ أعمقَ كِلْمةٍ فى مُعْجَمى

واللوح خَطَّ حروفه الشريانُ’

وشاعرنا مُتَوَلِّهٌ في الحب، متبول، وسكران حتي الثمالة في هُيام السَّكرَةِ الأولي: الحب والشعر والقصيدة والعاشقة، فباي آلاء ربكما تكذبان؟ فيصف المعشوقة بانها ابنة القلب، وانشطار القصيدة، ويجئ العطر مضمخاً “ببرفان المحبة”، عبر لغة عصرية، لا يعرفها المعجم القديم، بل لغة متواشجة مع الفرنسية الناعمة، يقول :

يا بنتَ قلبى وانشطارَ قصائِدى

زبدٌ يُقَطِّعُ ذاتنا ودُخانُ

هلْ تذكرينَ سماءنا ضَحِكاتنا

عُشّاً يعيشُ برُكْنِهِ الفنَّانُ

فالشاىُ بالنَّعْناعِ يَعْشَقُ رَشْفَتِى

والنيلُ دَوَّخَ موجَهُ البَرْفانُ

يا أنتِ فاتحةَ الكتاب وقل أعوذُ

.. أيَعْتَريكِ بِمَسِّهِ الشيطانُ ؟.

لقد شبهها ببنت القلب، وانشطار القصيدة، كما أنها فاتحة الكتاب للحب، وقل أعوذ به من الغواية والفتنة والشيطان، فهو يدغدغ الحروف ويعجن المعاني ويصهرها علي نار الأبدية، لتخرج القصيدة المشتهاة .

وبعد : هل يمكن أن نصف ما يكتبه شاعرنا الجميل / محمود حسن عبدالتواب – هنا – بأنه شعر عربي قديم، او عمودي، كالغابر في الأزمنة الخوالي؟ أم أنه شعر يجاوز الزمان عبر المكان، ويجاوز الصورة والشكل والمضمون ليجسد المعاصرة في الشعر، وليفسح لتجديدية وتثويراً لشعرنا العربي المعاصر،عبر جزالة اللفظ،وشرف المعني كذلك، وعبر كونية القصيدة وتجاوزيتها مركبة الشعر القديمة، فنراه عبر القصيدة مثل:” مًثَّال الحداثة”، ينقش فيها وجوده الأسني، ونقثاته المائزة، لتتحرر القصيدة من جمودها، ولتعبر عبر الأزمنة والعصور إلي الحداثة، لتقول القصيدة : ها أنا أجدد متن السفينة عبر نسخة حداثية، ولغة تغايرية، ومبني ومعني، وشكلاً ومضمونًا جديدين، لأعيد تثوير الأصالة لتكون مدخلاً للحداثة، وهنا نقول، ونرد علي أستاذنا د. أبو بكر البوجي – الذي نستقي من علمه ونستزيد من سعة بحره حين قال رداً هلي هذا السؤال :

“ملابس سيدي امرؤ القيس لا تصلح لي .. ولا ملابس سيدي المتنبي .. لكل عصر أزياء متطورة” .

وانا أقول نعم انها لا تصلح لي الآن،ولن يلبسها محمود حسن كذلك، لكننا لو استعرنا من هذه الملابس النسيج الجميل التراثي المبهر، وضمناه ثوب الحداثة، لخرجنا بتوليفة جديدة ومبهرة مثل التي رأيناها في شعر الشاعر الجميل/ محمود حسن، ثم في مجال اللغة أليست اللغة هي التي نُفصّل منها قماشة الشعر في عصر المتنبي وامرؤ القيس، وعصرنا الحالي، مع حذف الحوشي،غير المتداول، والمعجمي،غير المتماشي مع ذوق العصر ومقتضاياته ؟ أم ترانا نقول عنها لغة لا تصلح لنا ن وقد انتهت، فلو أعملنا فيها البلاغة الجديدة، والسياقات الحداثية عبر الاشتقاق وعلم اللغة الحديث وغير ذلك ستصلح كمدخل للحداثةن لا بديلاً للحداثة . ثم هل يعقل أن أقول عن الشاعر الجميل محمود حسن مثلاً بانه شاعر قديم عمودي جاهلي ؟ وشعره مديني كوني، معاصر، حداثي، يشتبك مع الوجود والكون والعالم والحياة ؟! .

إننا نتوسل وجهة نظر نقدیة عربیة جدیدة تحوي كل ما هو حدیث، ومستقبلى، وتعبر بالأصالة الى أجواز المعاصرة، لتتأكد الهویة، وتترسخ وجودیة العروبة الضالة في مدارج العالم الما-بعد حداثي الرهیب، ولعمري، فقد ارتأيت أن أنطلق من وجهة جدیدة، تغايرية-بعض الشيء- متوسلاً ظلال المناهج النقدیة عبرالعصور التاریخیة المتعاقبة،جاعلاً – كل ذلك، حتى النظریات الحدیثه- في المرجعیة الذهنیة؛ منطلقین من مبدأ نقدي نتغیَّاهٌ وسیلة لقراءة النص الأدبي، معتمدین طریقة – خاصة بنا- مفادها:” إن النص یطرح منهجیاته ونظریاته، ولیست هناك طریقة محددة لقراءة النص الأدبي، فقد أستعین بالتفكیكیة لإجراءات منهجیة تقتضیها طبیعة النص، أو القصیدة، لكنني قد استدعى في ذات الوقت البنیویة، والتعبیریة كذلك؛ لكي أعبر بالنص من ضفاف الأیدیولوجیا إلى آفاق تتغیَّا الشعریة الجدیدة: ظلال المعني، ولیس المعنى ذاته، فقط، بل فضاءاته، وسیاجاته الإحالیة عبر:الصورة والظل، البرهان والیقین، اللاوعي واللایقین، متقصِّدين لغة تواشجیة، شیفونیة، مونقة؛ لغة محكية ساردة، لا حكائیة مستطردة، تتوسل الذات وتعبربالشكل الى لا مضمونیات المعاني:تعبرها، وتجاوزها، عبر الإزاحة،والمفارقة والسرد المتقطع، الإحالي، الضمني، التعالقي، لتعید رسم رؤى ما بعد حداثیة للقصیدة العربیة التي تآلفنا على توقیعها، عبر الوزن والقافیة، اللفظ والمعنى، والتعالقات الذهنیة لنعبر بالنَّصیة، والخطِّيّةِ،الى زمكانیة مخصوصة؛ غیر مُحَدَّةٍ، أوالى”لازمكانیة” تستدعي وجودها خلف ظلال المعاني؛ ومقصدياتها الهائلة .

ولعل هذا الطرح يؤدى الى سقوط النظرية، والمنهج عند النظر الى قصيدة ما، من وجهة نقدية، أو أننا نتوخى تغييب وتذويب الفواصل بين المناهج والنظريات بغية الوصول الى منهجية إبداعية، تتغيا الذوق العام، وتعتمد ثقافة وذوق الناقد للحكم على النص الأدبي، عبر معايير هي في الذهنية فقط، يستدعيها وقتما شاء، كي نُخرِجض النقد من الأيديولوجيا من جهة، ولنطلق للناقد حريته في تقييم النص/ القصيدة ،دون اشتراطية النظرية، أو المنهج، فلا يجوز أن نقول للناقد ، أو يقول لنفسه: نويت أتعامل مع القصيدة على طريقة المنهج البنيوى، او التفكيكي، وكأنه يعقد عليها بمشروطيات ، بينما الأمر لا ينفع معه مشروطيات مسبقة بالطبع، من هنا تسقط النظرية النقدية – في رأيي – ولن نحتاجها إلا إذا استدعت واقتضت الضرورة النقدية تواجدها ، أي أنها ليست مُلزمة إلا عند الحاجة، وذلك لعمرى التجديد النقدي الذى يتغياه الحداثي الجديد !!.

واذا كانت السیمولوجیا، واستطیقا الشعر قد لعبا دوراً ما، فإن ” أبستمولوجیا النَّصیَّةِ الساردة قد عبرت بالقصیدة الجدیدة /الحداثة، وما بعدیاتها، الى آفاق أكثر اشراقاً وتثویراً، عبر اقتصادیات اللغة المائزة؛ واستنطاق جمالیاتها الكامنة في هارموني السرد الذي جاوز (عمود الشعر) وصهره داخله، لتتنامى الشعریة على ضفاف السرد،وليفسح السرد الشعري طاقاته، وحمولاته، لیصب في نهو البوح، فتنفتح الأجناس على مرافىء سفینة الإبداع السامقة التي تتهادى عبر الكون ، والعالم، والحياة. ومن ثم لا زلنا نسأل السؤال، ونتغيا الجواب الناجع : هل يصلح الشعر العمودي لأن يكون مدخلاً للحداثة العربية ؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى