عبد الحليم قنديل يكتب..
عبد الناصر الذي أمامنا
عبد الناصر أمامنا وليس خلفنا، نعرف ويعرف الكل، أن جمال عبدالناصر رحل إلى جوار ربه قبل أكثر من خمسين سنة، لكن مشروع عبد الناصر القومى العربى، ومشروعه للنهوض المصرى العربى ، وقيمه وأفكاره ومعارك ثورته التأسيسية الكبرى، كلها تظل تعيش بيننا طويلا طويلا، نافذة بإلهامها الذى لا ينفد إلى أعماق الروح والضمائر الحية، فى لحظة حيرة عربية شاملة، تشهد مصارع كل أفكار وتجارب المعادين لعبد الناصر فى حياته وبعد مماته ، بينما “يعيش جمال عبد الناصر حتى فى موته” ، على حد نص المقطع الموحى لشاعر العامية المصرية العبقرى عبد الرحمن الأبنودى .
يعيش جمال عبد الناصر فى ضمائر المصريين اليوم، وفى دعواتهم المباركة وأشواقهم الحارة ، وهم يرون صورته ناطقة بملامح مصر، وتكاد تطابق جغرافيا البلد وتدفق الحياة فيها ، والوقاية من غوائل العطش والجوع، والثقة والطمأنينة بقوة بلدهم المحمية المحروسة بإشارات السماء ، وهى تجيء بفيضان النيل غامرا فى العام تلو العام ، ففى عام 2019 ، كان فيضان النيل هو الأعلى على مدى خمسين سنة قبلها، وفى عام 2020، كان الفيضان هو الأعظم على مدى مئة سنة سبقت، ويجيء فيضان النيل هذا العام مرتفعا ، ويعبر حواجز السد الأثيوبى مع إخفاقات الملء الثانى الكاريكاتيرى ، ويصل إلى ذروته فى مصر كما كل سنة فى شهر سبتمبر، الذى شهدت أواخره رحيل عبد الناصر ، وصد سده العالى لكل خطر من الفيضان ، وحجز أعلى مخزون مائى خلف السد فى “بحيرة ناصر” ، وهى أكبر بحيرة صنعها الإنسان فى الدنيا كلها ، يبلغ طولها 500 كيلومتر، وأقصى عرضها 35 كيلومترا، ومساحتها 6216 كيلو مترا مربعا، وبارتفاع 180 مترا ، وبطاقة تخزين واصلة إلى 180 مليار متر مكعب من المياه ، أى ما يزيد على ثلاثة أمثال نصيب مصر التاريخى المقرر من مياه النيل، والمقدر بنحو55.5 مليار متر مكعب سنويا، فوق طاقات تخزين إضافية فى مفيض “توشكى” وغيره ، ترفع إمكانيات التخزين المصرى بحوالى مئة مليار متر مكعب إضافية ، توفر “بوليصة تأمين” شاملة للحياة المصرية، حتى فى سنوات جفاف منابع النيل ، كما جرى فى ثمانى سنوات عجاف بين عامى 1979 و 1987 ، سرى فيها القحط والتصحر فى أثيوبيا ، بينما لم يحس أحد بخطر ولا تغير فى الإيقاع المصرى اليومى، فقد كان سد عبد الناصر العالى تطورا فاصلا فى حياة المصريين عبر آلاف السنين، كان النيل يتحكم فى حياة المصريين قبل السد ، وصار المصريون مع السد سادة النيل، كان النيل قبل السد مصدرا لنعمة ونقمة ، كان فيضان النيل يهب الحياة ، وكان غضب الفيضان يغرق ويدمر، وكان جفاف النيل وغيضانه يؤدى لمهالك ومجاعات كبرى ، قصفت أعمار أجيال وراء أجيال من المصريين، وعلى نحو ما تحدثنا عنه سير المآسى المصرية ، كما جرى مثلا فى “الشدة المستنصرية” بالزمن المملوكى، كان المصريون وقتها لا يجدون زادا ، وأكلوا القطط والفئران، بل ولحوم إخوتهم من البشر، وكانت الزراعة مع الفيضان موسمية عابرة ، وكان الفيضان يذهب بغالب إيراد النيل إلى البحر المتوسط ، ولا يتبقى للمصريين سوى نحو خمسة مليارات متر مكعب سنويا ، برغم جهد المصريين الدءوب فى شق الترع والقنوات وتنظيم الرى فى دولتهم الأقدم كونيا، وإقامة قناطر وخزانات فى دولتهم الحديثة ، كان أظهرها بناء “القناطر الخيرية” فى عهد محمد علي عند نقطة تفرع النيل إلى “دمياط” وإلى “رشيد” ، وكان أفضلها “خزان أسوان” وتعلياته المتتابعة من أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين ، كان سدا صغيرا جدا بالقياس لحجم السد العالى، الذى كانت فكرته حلما راود مئات الأجيال من العلماء والوطنيين، كان أبرزهم عالم الرياضيات العربى الشهير الحسن بن الهيثم (المتوفى سنة 1029 ميلادية) ، وقام بتحديث الفكرة المهندس المصرى من أصل يونانى “أدريان دانينوس”، وقدمها إلى قادة ثورة 23 يوليو 1952 ، التى نمر هذه الأيام بذكراها التاسعة والستين، والتقط عبد الناصر فكرة السد الأعظم ، وجرى تكليف شركة ألمانية بإعداد التصميمات الأولية عام 1954 ، فى الوقت ذاته الذى بدأت فيه سيرة إقامة أول مصنع مصرى وعربى للحديد والصلب بحلوان ، ثم كان ما كان ، مما تعرفه أجيال عاشت اللحظة وتلتها ، من عقبات التمويل ، وانسحاب أمريكا وبريطانيا من تمويل المشروع ، ثم انسحاب “البنك الدولى” ، وإنهاء عرضه بتمويل ربع التكلفة ، ورفض جمال عبد الناصر لفرض أى شروط على مراقبة الخزانة المصرية ، أو عقد أى اتفاق تطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، أو التراجع عن خطة تنويع مصادر السلاح، فى ملحمة صراع كبرى ، بلغت ذراها بتأميم عبد الناصر لقناة السويس ، والمقاومة الأسطورية لحرب العدوان الثلاثى (البريطانى الفرنسى الإسرائيلى) ، وانتصار مصر الحاسم ، الذى قطعت به ذيل الأسد الإمبراطورى البريطانى للأبد، وهزمت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية بدعم حرب تحرير الجزائر ، وأحبطت خطط “ملء الفراغ” الأمريكية ، وأحلاف العداء لعبد الناصر وثورته ، التى ارتدت كالعادة ثيابا دينية مزيفة ، مع توالى قفزات التمصير والتأميم والتصنيع ، التى جعلت مصر الأعلى فى معدلات التنمية الحقيقية بالعام الثالث وقتها، بما فيه “صين” ماوتسى تونج وشو إين لاى ، وفى قلب الفورة العظمى ، كان حلم “السد العالى” يتحول من خاطرإلى احتمال ، ثم إلى حقيقة لا خيال ، على حد ما نطقت به قصيدة عزيز أباظة بالفصحى التى شدت بها أم كلثوم ، و”قلنا هنبني/ وآدى إحنا بنينا السد العالى” كما قال الشاعرالغنائى أحمد شفيق كامل ، وإلى أن ارتفع البناء عاليا شاهقا فى عشرية الستينيات ، وجرى افتتاحه كاملا بمحطاته الكهربية فى 15 يناير 1971 ، كان عبد الناصر قد غاب بجسده قبلها بشهور، رحل فى عنفوان الرجولة بسن الثانية والخمسين، ولكن بعد أن ترك هرمه الباقى الحافظ لحياة المصريين بعد عناية الله ، ترك سده الذى يزيد حجمه 18 مرة على أكبر أهرامات المصريين القدامى ، مع فارق مرئى ، أنه هرم لبعث الحياة لا لدفن الموتى .
نعم ، السد العالى هو الإيحاء الرمزى الأعظم لميراث جمال عبد الناصر ، الذى انتصر مرات ، وهزم مرة ثقيلة فى حرب 1967 ، لكن الشعب المصرى الذى كان يدرك بالغريزة مغزى وجود عبد الناصر فى حياته ، رفض تنحي الرجل عن القيادة بعد اعترافه بمسئوليته عن الهزيمة ، وأعاده إلى موقعه بفيضان جماهيرى عارم فى 9و10 يونيو 1967 ، هو ذاته الفيضان ، الذى اجتاح شوارع مصر وميادينها فى انتفاضة يناير 1977 ، وفى ثورة الشعب فى 25 يناير 2011 ، وفى موجتها الثانية الأعظم 30 يونيو 2013 ، وقد شهدتا أكبر معرض صور فى التاريخ لشخص مفرد غائب بجسده منذ 28 سبتمبر 1970 ، كان رفع صور عبد الناصر تعبيرا عن الاستمساك بالحلم ، الذى لم يفرط فيه عبد الناصر حتى آخر نفس ، ولم يخذل شعبه ولا أمته أبدا ، فقد راح بعد الهزيمة الثقيلة الكاسحة ، يتعهد ويمهد لاكتساب قيمة الديمقراطية التعددية مع إزالة آثار العدوان ، دعما وتعزيزا لقيم الاستقلال الوطنى والثقافى والتصنيع الشامل وأولوية العلم والتكنولوجيا وكفاية الإنتاج وعدالة التوزيع والتوحيد العربى، ويعيد بناء الجيش المصرى من نقطة الصفر ، ويخوض ملاحم حرب الاستنزاف ذات الألف يوم، ويشيد حائط الصواريخ العظيم ، وكان ذلك آخر إنجاز فى حياته القصيرة الخاطفة ، وذروة الإعداد الأعظم للعبور المعجز إلى النصر فى حرب أكتوبر 1973، كان جيش عبد الناصر هو الذى اقتحم المستحيل ، وهو ذاته الجيش الذى جرى ويجرى تطويره بجهد هائل يحسب للرئيس السيسى ، وبعودة صحيحة إلى سياسة عبد الناصر ذاتها فى تنويع مصادر السلاح وبعث الصناعات الحربية، وإلى أن صار أقوى تاسع جيش فى العالم ، يصد عن مصر غارات المتربصين الدوليين والإقليميين، ويدفع عنها دوائر عدوان متكاثرة ، لعل أخطرها ما يجرى من عبث عند منابع النيل بالسد الأثيوبى ، بينما تشعر مصر اليوم وبثقة ، أنها قادرة على سحق الخطر بقوة جيشها العظيم ، والتفاف شعبها على قلب رجل واحد ، وبقدراتها المتفوقة فى لحظة نهوض ، تتوالى أماراته تباعا، بعد ركود وانهيارات متتابعة منذ الانقلاب على خط عبد الناصر وتجربته وسيرته أواسط السبعينيات، وتغول مصائب الفساد المتوحش وطفح اليمين الدينى، وكلاهما فى خانة عداء مستحكم مع عبد الناصر اسما ورسما، ومع سد مصر العالى ، ومع جيشها الحامى الحافظ لأمنها ومقدراتها واتصال وجودها الخالد إلى أن يرث الله الأرض .